بجــــاية في الحضارة والتاريخ
بجاية اسم خالد في تاريخ المغرب العربي بشكل عام , والجزائر بشكل خاص , أقام فيها الفينيقيون والرومان والوندال والبيزنطيون خلال عصور غائرة في أعماق الماضي , وعرفها المسلمون حين أصبحت عاصمة للدولة الحمادية , إحدى كبريات الدول الإسلامية المؤثرة التي سادت الشمال الأفريقي فترة من الزمن.
فقد تمتعت "بجاية" في ظل الحماديين بسمعة وشهرة واسعة ,استمدتها من معاهدها الثقافية المتعددة , وتجارتها الرائجة على الشاطئ الأفريقي , واستقبالها الفارين من محاكم التفتيش بالأندلس , كما اشتهرت بعد ذلك بقوتها البحرية التي دافعت بها عن شواطئ المغرب العربي كله , فساهمت من ثم في الحفاظ على الحضارية والهوية العربية الإسلامية للمنطقة ... وكان لعهود الازدهار الثقافي والانتعاش الفكري الذي شهدته (بجاية) لقرون عديدة أثر بالغ في أن تصبح قبلة العلماء وطالبي المعرفة , فخرجت العلماء , وأنجبت المفكرين والمبدعين رجالاً ونساء , ولم تفقد تلك الشهرة وذلك الدور إلا حين امتدت إليها أيدي المستعمرين فخربتها , ودمرت ماضيها الزاهر.
قلعة بني حماد :
ومدينة بجاية هي ثاني عاصمة لدولة بني حماد ، أما عاصمتهم الأولى فقد كانت مدينة القلعة المشهورة بـ "قلعة بني حماد" التي اختطها الأمير حماد بن زيري بن مناد بن بلكين ، في حدود عام 398هـ (1007 – 1008مـ) ليعلنا منها تأسيس الدولة "الحمادية " دولة مستقلة عن دولة " بني زيري " التي كان على إمارتها في ذلك الوقت باديس بن أبي المنصور بن زيري ، وهو ابن أخي حماد.
وتتميز قلعة بني حماد التي تقع في الحدود الشمالية لسهول"الحضنة" بموقعها الاستراتيجي الهام فهي من الشمال محمية بجبل تاقرست الذي يبلغ ارتفاعه (1418 متراً) ومن الغرب بجبل قرين (1190 متراً) ويحيط بها من الشرق وادٍ بشكل مضائقه سوراً طبيعياً للمدنية , أما من جهة الجنوب فإن الطريق الوحيدة المؤدية إلى القلعة عبارة عن ثنية ملتوية تتبع "وادي فرج " ولذلك كان ابن الأثير ، دقيقاً حين وصفها بأنها ، أحسن القلاع وأعلاها , ولا ترام على رأس جبل شاهق , لا يكاد الطرف يحققها لعلوها.
وتحدث ابن خلدون في تاريخه عن مراحل تطورها : فأشار إلى أن حماداً اتم بناءها وتمصيرها على رأس المائة الرابعة , وشيد بنياتها وأسوارها , واستكثر فيها من المساجد والفنادق ، وأن الناصر بن علنّاس بني المباني العجيبة المؤنقة , وأن المنصور بني فيها قصر الملك والمنار الكوكب وقصر السلام.
وذكر صاحب كتاب الاستبصار أن بني حماد ، لهم بالقلعة مبان عظيمة , وقصور منيعة متقنة البناء عالية السناء.
واشتهرت القلعة بالفلاحة , وتربية المواشي والصناعة والنشاط التجاري , ووصف الإدريسي الجغرافي أهلها بأنهم أبد الدهر شباع ، وذلك لغناها بالحبوب , وقد لخص ابن خلدون ما اشتهرت به القلعة في كلمات موجزات فقال : استبحرت في العمارة , واتسعت بالتمدن ، ورحل إليها من الثغور القاصية والبلد البعيد طلاب العلوم , وأرباب الصنائع ؛ لنفاق أسواق المعارف والحرف والصنائع بها.
تأسيس بجاية :
ظلت قلعة بني حماد عاصمة للدولة الحمادية منذ عهد مؤسسها حماد الذي توفي سنة 419هـ وحتى عهد الناصر بن علناس بن حماد ، مروراً بعهود القائد بن حماد المتوفي سنة 446 هـ و محسن بن القائد ، الذي لم يستمر بالإمارة أكثر من تسعة أشهر , وعهد بلكين بن محمد بن حماد ، والذي يمكن اعتباره عهداً انتقالياً بين عهدي "محسن" و"الناصر " وذلك لما اكتنفه من أحداث داخلية...إلا أن "الناصر" كره الإقامة في القلعة بالرغم من أنها أصبحت في عهده عاصمة دولة قوية , تشتمل على ست ولايات هي : مليانة وحمزة (البويرة حالياً ) ونقاوس وقسنطينة ، والجزائر ، ومرسى الدجاج ، وأشير .. فأسس بجاية , وانتقل إليها في عام 461هـ .
وفي معجم البلدان كتب ياقوت الحموي ، يصف بجاية وسبب اختطاطها وما انطوي عليه من أحداث: ...مدينة على ساحل البحر بين أفريقية والمغرب كان أول من اختطها الناصر بن علناس بن حماد بن زيري في حدود عام 457هـ بينها وبين جزيرة مزغناي (الجزائر العاصمة حالياً) أربعة أيام كانت قديماً ميناء فقط , ثم بنيت المدينة من لحف جبل شاهق ، وفي قبلتها جبال كانت قاعدة ملك بني حماد وتمسى "الناصرية" أيضاً باسم بانيها , وهي مفتقرة إلى جميع البلاد , لا يخصها من المنافع شيء إنما هي دار مملكة , تركب منها السفن وتسافر إلى جميع الجهات وبينها وبين " ميلة " ثلاثة أيام.
وكان السبب في اختطاطها أن تميم بن المعز بن باديس ، صاحب أفريقية أنفذ إلى ابن عمه "الناصر بن علناس" " محمد بن البعبع" رسولاً لإصلاح حال كانت بينهما فاسدة , فمر" ابن البعبع " بموضع "بجاية " وفيه أبيات من البربر قليلة , فتأملها حق التأمل ...وأشار عليه (أي على الناصر) ببناء "بجاية" وأراه المصلحة في ذلك , والفائدة التي تحصل له من الصناعة بها , وكيد العدو .
فأمر من وقته بوضع الأساس وبناها بعسكره.. .ولما توفي الناصر سنة 481هـ واصل خلفه ما كان عليه من اهتمام بعمران المدينة , ولا سيما ابنه المنصور الذي خلفه في الإمارة , وكان معروفاً بولعه بالبناء ، فأسس جامع "بجاية" وجدد قصورها ، وتأنق في اختطاط المباني ، وتشييد القصور وإجراء المياه في الرياض والبساتين.
دور بجاية السياسي :
أولاً : في حركة الموحدين :
لا تكاد تجد حقبة هامة في تاريخ المغرب العربي الكبير إلا وبجاية تشكل محور أحداثها ... فدولة الموحدين التي يمكن اعتبارها مرحلة حاسمة في تاريخ الأمة الإسلامية في جناحها الأفريقي انبثقت نواتها الأولى في بجاية , أو قريباً منها , ذلك أن "عبد المؤمن بن علي الكومي الندرومي الجزائري " التقى ( قابل) " المهدي بن تومرت المصمودي المغربي " في مسجد ملالة الذي يبعد نحو ستة أميال عن بجاية , وقررا الإطاحة بالدولة الزيرية في تونس , والدولة الحمادية في الجزائر ، والدولة المرابطية في المغرب ، فقد شاخت , وهزمت جميعها , ودب فيها الفساد والانحلال , حتى قال عنها ابن خلدون : "استرجلت فيها النساء ، وتأنث فيها الرجال ، وانقلبت المفاهيم ، وانعكست الآية ..."ومن ربوع بجاية انطلقت دولة الموحدين تقوم الاعوجاج , وتعيد الأمور إلى نصابها ، وتوحد المسلمين في الشمال الأفريقي والأندلس...
ثانياً : في تأسيس الدولة العثمانية بالجزائر :
دخل العثمانيون الجزائر من بوابة بجاية , .. ففي حدود عام 914هـ (1510م) غزا الإسبان بلاد المغرب العربي , واحتلوا مدن سبتة ومليلة ووهران والمرسى الكبير والجزائر وبلغوا بجاية ,وكان عليها يومئذ صغيران ضعيفان يتازعان السلطة (عبدالرحمن وعبدالله) فاستعان كل منهما ضد الآخر بالإسبان – على طريقة ملوك الطوائف في الأندلس , مما سهل مهمة الأعداء في دخول المدينة , وتدميرها والقضاء على أميريها وعمرانها , الأمر الذي دفع نفراً من علمائها أن يذهبوا إلى تونس , ويدعوا أربعة أخوة عثمانيين , هم عروج وخير الدين وإسحاق وإلياس , للقدوم إلى بجاية وتنظيم بحريتها , وتوحيد صفوف المقاومة فيها ، وتخليصها من الإسبان ، إذ لم تكن الدويلات المغربية في ذلك الوقت من القوة بحيث يمكنها صد المستعمرين.
ولما جاء الإخوة العثمانيون إلى بجاية نظموا البحرية ، وأرسوا دعائم قيام دولة حديثة , ثم دُعوا إلى مدينة الجزائر , فأسس ثلاثة منهم فيها (حيث كان رابعهم وهو إلياس قد استشهد في بجاية) الدولة العثمانية الحديثة , وكانت دولة مستقلة تماماً عن الدولة الأم ، وكان كل ما يصدر عنها , يصدر باسم (الجزائر المحروسة) ولقد دافع العثمانيون بأساطيلهم وبحريتهم التي أعادوا تنظيمها في بجاية عن شواطئ المغرب العربي كلها والأندلس.
وقد تحامل بعض المؤرخين الغربيين ، أمثال شارل فيرو صاحب كتاب تاريخ المدن على دور العثمانيين لمدينة بجاية , وإعادتها مركز إشعاع ثقافي حضاري كما كانت في عهد الحماديين , وزعم هؤلاء المؤرخون أن بجاية جردت من عظمتها كلها خلال العهد العثماني ، ولم تعد تؤدي سوى دور ثانوي في مصير أفريقيا الحديثة , ويعزون ذلك إلى أن المدينة وقد خضعت للاستعمار الإسباني قرابة نصف قرن من الزمان تعرضت معاملها الثقافية والحضارية خلالها للإهمال ، وتهدمت أحياء كثيرة منها , وتقلص عدد سكانها بنسبة كبيرة جداً , ولما جاءها العثمانيون وطردوا الإسبان منها كانت قد فقدت كثيراً من العوامل التي تستطيع أن تصل ماضيها بمستقبلها.
ويعتقد المؤرخون أن العثمانيين كان بإمكانهم أن يجعلوا من بجاية مقرا لحكومتهم حيث تتوفر فيها الشروط الضرورية لجعلها مؤسسة بحرية قوية , ولكنهم اكتفوا بجعلها إحدى الموانئ التي تحتمي فيها سفنهم خلال فصل الشتاء...
ويلتمس بعض المؤرخين العذر للعثمانيين في عدم اهتمامهم بالجانب الثقافي الحضاري في بجاية , ذلك أن العثمانيين كانوا في الأصل عسكريين كرسوا جل همهم في توفير القوة الحربية..
وأيّا ما كان الأمر ـ وكما يقول بعض المهتمين بتاريخ الجزائر – فإن الجزائر والمغرب العربي كله , وكثير من دول البحر الأبيض المتوسط مدينون لمدينة بجاية وعلمائها الذين كانوا سبباً في تأسيس الدولة العثمانية الجزائرية التي دافعت وحمت وطردت الإسبان ، وحافظت على الحضارة العربية الإسلامية في هذه الرقعة من العالم الإسلامي.
ثالثاً : بجاية أيام الاستعمار الفرنسي :
قاومت بجاية واستعصت كثيراً على الغزاة الفرنسيين الذين لم يتمكنوا من احتلالها في عام 1934م إلا بعد أن استخدموا آخر ما انتجته مصانعهم من أسلحة الدمار في ذلك الوقت ,ولكنها لم ترضخ أو تستلم للاحتلال.
بل مضت تقاوم المحتلين وتحرض المؤمنين على القتال , وتعد العدة لذلك ، روحيا وسياسياً وعلميا , وكانت الزوايا , وكتاتيب القرآن خلايا , تنطلق منها كتائب الجهاد , وشهدت ربوع بجاية تفجر ثورات عديدة , لعل من أبرزها ثورة عام 1871م التي قادها محمد المقراني والشيخ بلحداد ـ وعمره يومئذ ثمانون عاماً ـ يعاونه ولداه (عزيز ومحمد ) وأتباع الطريقة الرحمانية التي كان بلحداد أبرز مشايخها , وبالرغم من أن الفرنسيين تمكنوا من إلقاء القبض على قادة الثورة في غضون عام تقريبا , إلا أنها انتشرت بسرعة في مختلف المناطق , وبقيت مستمرة حتى قال عنها بعض المؤرخين : إنها أطول ثورة وأشعلها.
رابعاً : مؤتمر الصومام([1]) :
وفي مرحلة ما قبل الاستقلال كان لـ بجاية دورها العام في التحصين والإعداد والتحريض والتخطيط للثورة المنظمة , التي تفجرت في فاتح تشرين الثاني (نوفمبر) 1956م فالمؤتمر الأول لجبهة التحرير الوطني الذي عرف بـ "مؤتمر الصومام " وكان إيذاناً ببداية مرحلة جديدة في جهاد الشعب الجزائري عقد بمكان غير بعيد من بجاية , ففي قرية إيفري التابعة لبلدية أوزلاقن, وفي موقع على رأس جبل يرى منه ما حوله , مفرط في الإيغال في الابتعاد عن الطرق المعهودة , شديد الانزواء وراء القمم والأعالي , يدل اختياره على عقلية عسكرية فذة , كان يتمتع بها المجاهد الجزائري ـ في هذا الموقع ـ عقد مؤتمر الصومام في 20 آب "أغسطس" 1956م
ومن ثم انتظمت الثورة كل شبر على أرض الجزائر , وامتدت إلى أن قضى الله أمراً كان مفعولاً.
النهضة الفكرية في بجاية :
بالرغم من كل ما عرف به أمراء الدولة الحمادية من بذخ وولع بالعمارة وبناء القصور إلا أنهم اشتهروا أيضاً باهتماماتهم الثقافية والعلمية ، واستخدام الأدباء في دواوينهم الرسمية , وتقريبهم العلماء , وتفضلهم على من سواهم ، والإغداق عليهم , وعقد المجالس العلمية للمناظرة , وتشجيع المبدعين والمفكرين , فنشطت حركة فكرية علمية وسعة , وبرزت بجاية كواحدة من الحواضر الإسلامية تضاهي بغداد والقاهرة والقيروان وغيرها.
والفضل في ذلك كله يعود إلى الأمراء الحماديين الذين جعلوا من قصورهم ساحات فكرية , يتنافس فيها أصحاب الإمكانات في مختلف أنواع العلوم النظرية والتجريبية , وقد برز من الحماديين بشكل خاص "المنصور بن الناصر "الذي بلغت بجاية في عهده درجة عالية في العلوم والفنون ، إضافة إلى ما بلغته من ازدهار اقتصادي ورقي عمراني ، فقد كان المنصور كاتباً وشاعراً , يتبارى في ذلك مع من اختصوا به.
دار هجرة العلماء :
وصفت بجاية بأنها دار هجرة العلماء ,وذلك راجع إلى هجرتين أساسيتين
, أما الأولى فهي هجرة رجال الفكر والأدب من قلعة بني حماد التي كانت دار علم وأدب ومعهداً لتحفيظ القرآن والحديث ، وتعليم العربية ... أما الهجرة الثانية فهي هجرة العلماء والمحدثين والأدباء من الأندلس فارين بدينهم من محاكم التفتيش , والاضطهاد الإسباني بعد سقوط دولة المسلمين هناك.
يضاف إلى ذلك هجرات العلماء من القيروان والقرويين وغيرهما من الحواضر الفكرية .. فشهدت بذلك مرحلة من التلاقح الفكري والامتزاج الثقافي , جعلت منها مركز الإشعاع الفكري في وسط الجزائر , إلى جانب تلمسان في الغرب وقسنطينة في الشرق.
ولم تكن قبلة العلماء والمفكرين وحدهم ، وإنما ، وبسبب ذلك ، كانت غاية طلاب العلم , يشدون إليها الرحال من كل حدب وصوب, قاصدين علماءها ومعاهدها التي بلغت شهرتها الآفاق ... كما لم يكن العلم وقفاً على الرجال دون النساء , فجامعة " سيدي التواتي " مثلاً كان يؤمها في يوم من أيام بجاية ثلاثة آلاف طالب منهم خمسمائة طالبة ويقال : إن إحداهن أوفدت إلى مؤتمر علمي فألقت محاضرة , امتدت ثلاثة أيام وكان موضوعها حول علم الفلك والحساب الرياضي. ..
ويذكر المؤرخون أن هناك أكثر من ألف امرأة كانت تحفظ المدونة ، التي كتبها الإمام سحنون في الفقه المالكي ، عن ظهر قلب كما تحفظ القرآن الكريم ,
وقد خلد الإمام عبدالحميد بن باديس ـ رحمه الله ـ دور نساء بجاية في نهضتها الفكرية في عبارته الشهيرة التي وصفهن بها ـ إلى جانب نساء بغداد وقرطبة ـ بأنهن بلغن مكاناً عالياً في العلم , وهن محجبات.
ومما يؤكد أهمية بجاية والمكانة العلمية التي بلغتها في عهودها الزاهرة ، اتجاه غير المسلمين إليها وطلبهم العلم في معاهدها , فقد تعلم أهل بيزا الإيطاليون صنع الشمع من مصانعها , ونقلوه إلى بلادهم , ومنها إلى أوروبا ، ولا يزال يمسى الشمع عندهم (بوجي) مأخوذاً عن اسم بجاية كما أن العالم الرياضي الإيطالي الشهير (فليوناردو بيزة) تتلمذ على أيدي علمائها.
أعلام بجاية :
لقد تخرج من بجاية أعلام كثيرون في الفقه ، والأدب والشعر والطب والرياضيات وغيرها ... ورغم أن أبا العباس أحمد بن عبدالله الغبريني ، وضع كتابه "عنوان الدارية " للترجمة لمشايخه من علماء القرن السادس الهجري الذي يعد من أكثر قرون بجاية ازدهاراً في الحياة العلمية والتعليمية ، إلا أنه لم يأت عليهم جميعاً , واكتفى بأن قال بعد أن أورد مجموعة منهم :" وقد بقي خلق كثير من أهل المائة السادسة , ممن لهم جلال وكمال , ولكن شرط الكتاب منع من ذكرهم.
وفي إطار الترجمة لأبي علي المسيلي : الذي درس ببجاية , وولي القضاء بها , وجمع بين العلم والعمل , وعرف بأبي حامد الغزالي الصغير ، أشار الغبريني إلى حجم العلماء المجتهدين الذين قاموا على حل المسائل الشرعية الدقيقة ...فأورد قولا لأبي علي المسيلي ، جاء فيه : "أدركت ببجاية ما ينيف على تسعين مفتياً , ما منهم من يعرف الحسن بن علي المسيلي".
لقد استطاعت بجاية أن تكون لأكثر من أربعة قرون قبلة العلماء , ومهبطاً لأفئدة طالبي العلم ، وساحة لتبادل الأفكار والآراء ، وميداناً للإبداع العلمي ؛ حيث راجت حركة نشطة للتأليف في الفقه والتاريخ والرياضة والفنون والنحو وغير ذلك ... ويذكر المؤرخون أن الفرنسيين عندما غزوا بجاية استولوا على حمولة اثنتي عشرة سفينة من الكتب القيمة جمعت من مدارس بجاية ومساجدها ويقال إن هذه الكتب غرقت جميعها في البحر ...
نزعات صوفية :
طغى على قطاع كبير من الشعب الجزائري إبان عهود مقاومة الاستعمار النزوع إلى التصوف , وبالرغم من وجود بعض التحفظات والملاحظات على مسالك كثير ممن يدعون التصوف الذي لا تحكمه الضوابط الشرعية , إلا أن نزعة الشعب الجزائري اتجهت إلى إبراز المعاني الإيجابية المتمثلة في ربط الإيمان بالعمل , ويمكن اعتبار ثورة الشيخ بلحداد , التي اعتمد فيها بشكل رئيس على أتباع الطريقة الرحمانية أقوى برهان على ذلك...
وإذا كان التصوف نزعة تميز بها الجزائريون في عهود الاضطهاد , وأوجدت منهم شعباً مجاهداً قل مثيله في العصور الحديثة , فإن الزوايا تعتبر المؤسسات الشعبية التي مورست من خلالها حياة التصوف وتحققت بين أركانها تلك الروح الجهادية.
ولم يقتصر نشاط الزوايا على التربية والتعليم والتحصين الثقافي والحفاظ على اللغة العربية والتقاليد الإسلامية والهوية الحضارية , وإنما تجاوز ذلك للقيام بأنشطة اجتماعية وسياسية , ولا سيما في عهود الاستعمار ... ويمكن اعتبار عام 915هـ (1510م) حيث سقطت بجاية بأيدي المستعمر الإسباني , بداية التاريخ الجهادي للزوايا ...ذلك أن العلماء وأهل الفكر والثقافة حين حاصرهم الأسبان , ودمروا عليهم مدينتهم ومعاهدهم أخذوا يبحثون عن مواقع جديدة يواصلون منها رسالتهم التي نذروا أنفسهم لها , فلم يجدوا ـ كما قال شارل فيرو في كتابه "تاريخ المدن " ـ أحسن من من حوض الصومام , وقمم جباله التي بقيت منيعة من الاستعمار الإسباني طيلة الفترة التي قضوها يحتلون بجاية.
ولم يعتمد العلماء النازحون من بجاية على دولة لتؤسس أو تمول لهم زوايا يواصلون منها رسائلهم التعليمية ، وإنما اعتمدوا بشكل أساسي على الجهود الذاتية والمساعدات العينية للمسلمين , فقد أحسنت المناطق التي التجؤوا إليها استقبالهم , ورفعت من شأنهم كعلماء, والتف الناس حولهم ,وساعدوهم بكل ما يملكون , بل حموهم سياسياً حين اشتدت المحن , وكان لذلك أثره في أن تنشأ في حوض الصومام أشهر الزوايا وأخطرها في تاريخ الجزائر , كمعهد "ثامقرا" وزاوية "شلاطة" ومعاهد بني "وغليس" وزاوية "سيدي التواتي " التي بقيت تعمل كجامعة مرموقة لأكثر من أربعة قرون , ويكمن القول بأن الإشعاع الثقافي الذي كان ينبعث من قصور حكام بجاية ومعاهدها لم يخبُ حين دمرها الإسبان ، وإنما انتقل إلى الوديان , وأعالي الجبال ليشمل حوض الصومام وقراه.
خريجو الزوايا :
لقد أنجبت زوايا حوض الصومام علماء أعلاماً فيما كرسوا أنفسهم له فهناك "عبدالرحمن الثعالبي" و "أحمد بن إدريس" الذي تتلمذ عليه (ابن خلدون) و (أحمد بن القاضي الزواوي ، الذي يقال : إنه ترأس الوفد الذي استدعى الإخوة العثمانيين الأربعة لتخليص بجاية من الإسبان ، والشيخ الفقيه عبدالرحمن الوغليسي ، الذي انتشر تلاميذه في القرن الثامن الميلادي في مختلف أنحاء الجزائر...
إن العلماء الذين تخرجوا في هذه الزوايا هم الذين حافظوا على الإسلام والعربية في الجزائر ، وجعلوا من الإيمان والعقيدة قوة فاعلة استطاعت أن تصد محاولات المستعمرين لاختراق الشخصية الإسلامية وتشويهها , وكما أسلفنا فقد انطلقت من هذه الزوايا كتائب الجهاد , وتفجرت ثورات كثيرة ومعارك عديدة لمقاومة المستعمر , ولذلك بقيت الزوايا ذات قيمة تاريخية جهادية لدى المواطنين لما أدته من دور وطني.
محاولات القضاء على الزوايا :
ومن هنا كانت محاولات الاستعمار المتكررة لمحاصرة الزوايا والقضاء على رسالتها من الداخل ... وكانت أشهر محاولات في هذا الصدد ما حدث عام 1889م حين سعى الفرنسيون لإدخال عناصر موالية لهم وتتعاون معهم ,فطلبوا من شيوخ الزوايا ، وهم المشهود لهم بالعلم ، أن يجلسوا لاختبارات كفاءة يكون اجتيازها شرطاً للسماح لهم بمواصلة رسالتهم ، ولقد تمكن المستعمر بهذه الطريقة من تشريد بعض الأساتذة وطلبة العلم , فهاجروا إلى تونس ومصر والشام وغيرها وأصبحت برامج الزوايا خاضعة لرقابة عيونهم وأعوانهم , ولم يعد مسموحاً بتدريس شيء سوى القرآن الكريم ...ولكن مع ذلك كله لم تمت الزوايا أو تتلاشى , ولم يتوقف تدريس العلوم التي كانت تدرس من قبل ، فقط أصبح يتم خفية , وساهم تدريس القرآن بشكل أساسي في انتشار اللغة العربية والاعتزاز بها , ورفض لغة المستعمر كبديل عنها.
ولقد كان في وعي الجماهير ، ودقة حاسة عامة الناس ، ومقدرتهم على التمييز بين العناصر الدخيلة والعميلة , وبين العناصر الوطنية الصادقة ، وإصرارهم على عدم التعامل إلا مع الصادقين ، السر في بقاء الزوايا واستمرار رسالتها التربوية والتعليمية والسياسية , وانتشارها في المدن والقرى والبوادي.
الزوايا بعد الاستقلال :
بإمكان الدارس لتاريخ الزوايا في الجزائر أن يرى فيه ثلاث مراحل أساسية:
مرحلة مقاومة المستعمر : وهي أكثر المراحل ازدهاراً ,ومرحلة الثورة المنظمة ,ومرحلة ما بعد الاستقلال ...وإن كنا قد أشرنا في الأسطر الماضية إلى المرحلة الأولى , فقد نرى تجاوز المرحلة الثانية , حيث توقفت الزوايا ـ نوعا ما ـ عن أداء رسالتها التعليمية بسبب انخراط العلماء والطلاب في صفوف الثورة المسلحة , والاستعداد لمعركة الاستقلال ؛ لنصل إلى المرحلة الثالثة التي تكتسب أهمية خاصة ؛ بسبب استمرارها , وما تنطوي عليه من صراع حضاري ...
وقد يكون من الضروري أن يتساءل المرء عن الزوايا بعد الاستقلال حيث أصبحت المدارس وطنية , وعما إذا استمرت تتابع طريقها في تعليم القرآن المواد الشرعية لطلاب لا يذهبون إلى المدارس الرسمية ، أو أن نشاطها اقتصر على القيام بدور التثقيف الشعبي , وتعليم طلبة المدارس الرسمية – في أوقات خاصة ـ القرآن وبعض العلوم الشرعية.
يقول أحد المسؤولين بولاية بجاية رداً على ذلك :
لم تعد الزوايا بعد الاستقلال على ما كانت عليه أيام الاستعمار الإسباني ومن بعده الفرنسي , وقد توقفت بعض الشيء في مرحلة الثورة وبداية الاستقلال , ولكن حين أوكل أمرها فيما بعد إلى وزارة الشؤون الدينية استعادت بعض ما كان لها , وأصبحت مورداً هاماً لتزويد المعاهد التي تعتمد عليها الوزارة في إعداد أئمة ووعاظ ومعلمين ؛ لتدريس القرآن بالمساجد والإشراف عليها ...ومعظم طلاب الزوايا اليوم ممن أكمل المرحلة الابتدائية في المدارس الرسمية , ولم يوفق لمواصلة فيها , حيث تعتبر الزوايا بمثابة مرحلة متوسطة , يلتحق الطالب بعد إكمالها بأي من المعاهد الأربعة التي تتبع وزارة الشئون الدينية .. ويكون الطالب بعدها مخيرا بين العمل أو مواصلة تعليمه بالجامعة الإسلامية بقسنطينة , أو بمعهد العلوم الإسلامية في جامعة الجزائر.
أما دور الزوايا في التثقيف الشعبي فقد أصبح محدوداً ومقتصراً على دروس في القرآن والفقه... ( هذا كلام الرجل في أواسط العقد التاسع من القرن الماضي )
ماذا بقي ؟
أما اليوم فلم يبق من بجاية الحمادية شيء باستثناء بعض الأبواب بأقواسها ذات الأبعاد المعمارية المتميزة ... أما القصور ومعاهد العلم فقد دمرها المستعمرون , وبنوا على انقاضها الحصون والثكنات العسكرية , ولكنهم وإن استطاعوا إزالة الكثير من آثار المسلمين وشواهد حضارتهم , إلا أنهم عجزوا عن تشويه الإسلام الذي يقيض الله له دائما الأجيال التي تحمله وتدافع عنه.
استطلاع منقول من مجلة الأمة القطرية ( العدد 63 ربيع الأول سنة 1406هـ )
________________________________________