قارئي العزيز ......
ما انت بصدد قراءته الآن لهي قطعة بيانيه ، و زخرفة فُسيفسائيه ، سطرها لنا ذاك الأديب الكبير : مصطفى صادق الرافعي ..
و هو يشهد ليلة كان برفقة والده حيث يعتكف أباه في احدىالمساجد ..
أرتأيت ان انقل لكم سرده العبقري و هو يصف ترتيل القرآن في ذاك السَحر..
و ليس أكمل من كلام الله جل علاه و صوت قد زانه المولى بإعجازه ، و رققه بإبداعه ، و حسنه بكبير قدرته ، و بيان كبلاغة الرافعي يصف لنا تلك الهُنهيات
التي تكتنف أواخر الليل و الدجى قد أرخى بسدوله على الكون ، و ألقى بهدوئه على النفوس ، غلالة تتغشى ألباب فُطرات على الهيام في الله ، و الغياب في ملكوته حيث جلا علاه يتجلى لعباده مرسلاً نحوهم نور رضاه ، و مانحهم إشراقات فيوضاته ، و تجليات اللذة و هو يهيمون حب ، و يتيهون عتبى حتى يرضى ...
......................................................................................... :
( و أنا انحدر من تلك العليه التي يسمونها : ( الدكة )
جلست أنتظر الصلاة ، و المساجد كانت في ذلك العهد تضاء بقناديل الزيت
في كل قنديل ذُباله يرتعش النور فيها خافتاً ضئيلاً يبص بصيصاً ، كأنه بعض من معاني الضوء لا الضوء نفسه ... !!
فكانت هذه القناديل و الظلام يرتج حولها ، تلوح كأنها شقوق مضيئه في الجو
فلا تكشف الليل و لكن تكشف أسراره الجميلة ....
و تبدو في الظلمة كأنها تفسير ضعيف لمعنى غامض يومئ إليه لا يبينه ..
ثم يشعر الجالس في المسجد بالفجر في ذلك الغبش ، عند إختلاط آخر الظلام بأول الضوء ، شعوراً ندياً ، كأن الملائكة قد هبطت تحمل سحابة رقيقة تمسح بها على قلبه ، كأنما جاؤوه مع الفجر ليتناول النهار من أيديهم مبدوءاً بالرحمة و مفتتحاً بالجمال .........
...................................................... لا أنسى تلك الساعة و نحن في جو المسجد و القناديل معلقة كالنجوم في مناطها من الفلك ، و تلك السرج ترتعش فيها إرتعاش خواطر الحب ، و الناس جالسون ، عليهم خواطر و قار أرواحهم ، و من حول كل إنسان هدوء قلبه ، و قد إستبهمت الأشياء في نظر العين ليُلبسَها الإحساس الروحاني في النفس ، فيكون فيه الجمال الشعري
لا انسى في تلك الليلة و قد إنبعث في جو المسجد صوت غَرِدُ رخيم يشق سدفة الدجى في مثل رنين الجرس تحت الافق العالي و هو يرتل هذه الآيه :
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ... سورة الحديد ( 16 )
و كان هذا القارئ يملك صوته أتم ما يملك ذو الصوت الُطرِبِ ، فكان يتصرف به أحلى مما يتصرف القُمري و هو ينوح في أنغامه ، و بلغ في التطريب كل مبلغ يقدر عليه القادر ، حتى لا تُفسر اللذة الموسيقيه بأبدع مما فسرها هذا الصوت ...
و ما كان إلا كالبلبل هزته الطبيعه بأسلوبها في جمال القمر ، فاهتز يجاوبها بأسلوبه في جمال التغريد ..
و سمعنا القرآن غضاً طرياً كأول ما نزل به الوحي ..
فكان هذا الصوت العذب يدور في النفس كأنه بعض السر الذي يدور في نظام العالم و كأن القلب و هو يتلقى الآيات كقلب الشجره يتناول الماء و يكسوها منه ..
و اهتز المكان و الزمان ، كأنما تجلى المتكلم سبحانه و تعالى في كلامه ، و بدأ الفجر كأنه واقف يستأذن الله أن يضيئ من هذا النور !!
و كنا نسمع قرآن الفجر و كأنما مُحيت الدنيا التي في الخارج من المسجد و بطل باطلها ، فلم يبقى على الأرض إلا الإنسانيه الطاهرة ...
و هذه هي معجزة الروح متى كان الإنسان في لذة روحه مرتفعاً عن طبيعته الأرضيه ...! )
......................... وحي القلم للرافعي