معجزات البحر وعيون الماء
البحر ينشق نصفين
قال تعالى:{ فأحينا الى موسى أن اضرب بعصاك البحر, فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم* وأزلفنا ثم الآخرين* وأنجينا موسى ومن معه أجمعين* ثم أغرقنا الآخرين* ان في ذلك لآية, وما كان أكثرهم مؤمنين}. الشعراء 63-67.
تعدّد ت معجزات موسى عليه السلام مع البحر والنهر وعيون الماء وقد وهب الله موسى هذه المعجزات كي يمكّن المؤمنين من دعوته وينصر موسى عليه السلام على أعدائه, ولكي تكون هذه المعجزات عبرا ايمانية ودروسا تستجيب أمامها العقول المتحجرة, ولو نظرنا لموسى عليه السلام, نجد أن حياته بدأت بصندوق حمله في نهر النيل الى أن وصل الى قصر فرعون, فحملته آسية امرأة فرعون وتربّى موسى عليه السلام في قصر فرعون على ضفاف النيل.
ومعجزة موسى مع البحر بدأ بغباء فرعون وقومه, فأرسل الله عليهم آيات العذاب كالجراد والضفادع, ثم وقعت آخر آيات العذاب الدنيوي, وهي آية الدم.
لقد تحوّلت مياه النيل الى دم لا يستطيع أن يسيغه أحد وكانت آية جديدة على قوم فرعون اذ أن الآيات السابقة كانت من النوع المعروف في البيئة الزراعية, التي تقوم حياتها على النهر, سواء أفاض النهر أم أمسك عن فيضانه.
أما آخر الآيات التي عذب بها قوم فرعون فهي الدم, وهذا لون جديد لم تألفه البيئة المصرية, لقد تحولت مياه النيل الى دم, وتمّ هذا التحوّل الى المصريين من أتباع فرعون, فكان موسى وقومه يشربون مياها عاديّة, وكان أي مصري يملأ كأسه ليشرب, يكتشف أن كأسه مملوء بالدم.
كانت هذه الآية من آيات العذاب بمثابة صدمة اهتز لها المصريون وقصر فرعون, انها آية رهيبة وكارثة ضخمة.
ولم يجدوا أمامهم ملاذا يتوسّلون اليه ليتخلصوا من عذاب هذه الآية الرهيبة سوى موسى عليه السلام فذهبوا يتوسلون اليه ويرجونه أن يدعو ربه, وقالوا انهم مقابل ذلك سوف يطلقون سراح بني اسرائيل هذه المرّة بعد أن رفضوا خروجهم ومنعوهم قبل ذلك مرّات ومرّات.
استجاب موسى عليه السلام لتوسلاتهم التي طالما كرروها في مواقف عدة ولم يوفوا بعهودهم أبدا, ودعا موسى ربه فانكشف عنهم العذاب, وعاد الماء صافيا, فشربوا منه وارتووا, ولما حان تنفيذ وعدهم والوفاء بعهدهم الذي عاهدوه موسى عليه السلام رفضوا, ورفض فرعون أن يسمح لموسى باصطحاب قومه من بني اسرائيل والرحيل بهم وزاد الأمر تعقيدا, أن فرعون تشدد أكثر في كفره, واشتد في الهجوم على موسى, وأعلن بين قومه أنه اله, وقال: اليس لي ملك مصر, وهذه الأنهار التي تجري من تحتي؟ وأعلن فرعون أن موسى ساحر كذاب, وأنه رجل فقير لا يملك مالا ولا يملك أسورة واحدة من الذهب.
وقد قصّ القرآ، كل هذا المشهد المثير فقال عز وجل:
{ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا الى فرعون وملئه فقال اني رسول رب العالمين* فلما جاءهم بآياتنا اذا هم منها يضحكون* وما نريهم من آية الا هي أكبر من أختها, وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون* وقالوا يا أيّه الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك اننا لمهتدون* فلما كشفنا عنهم العذاب اذا هم ينكثون* ونادى فرعون في قومه قال ياقوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون* أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين* فلولا ألقى عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين* فاستخف قومه فأطاعوه, انهم كانوا قوما فاسقين*}. الزخرف 46-54.
هكذا بدا فرعون متجبرا مغرورا, وبدا واضحا لموسى عليه السلام أن هذا الفرعون وقومه لن يؤمنوا مهما أعطوا من عهود, وأن فرعون لن يكف عن تعذيب بني اسرائيل, والاستخفاف بهم. شعر موسى عليه السلام أنه لا فائدة من هؤلاء, ومن كبيرهم الفرعون. لقد أغلقوا عقولهم في وجه الايمان, وأغمضوا عيونهم لكي لا ترى جمال الخالق وعبرة خلقه الماثلة أمامهم.
وجاء الدعاء من موسى عليه السلام, جاء هذه المرّة غاضبا ساحقا لا رجعة عنه, وقف مع أخيه هارون وقد شاركه هذا الاحساس بأنه لا فائدة من هؤلاء, رفع موسى يده الى السماء ورفع هارون يده الى السماء ودعا كل منهما ربه فقال: وقال موسى:{ يارب ان هؤلاء قوم لا يؤمنون * فاصفح عنهم وقل سلام, فسوف يعلمون} الزخرف 88-89.
وقد استجاب الله عز وجل لهذ الدعاء, وخاطب موسى وهارون فقال لهما:
قال:{ لقد أجيبت دعوتكما فاستقيما لي ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون} يونس 89.
ترى ما هي الخطوة القادمة؟ ماذا عليه أن يفعل موسى؟
لقد أمر أن يخرج من مصر, وأذن له بالخروج من مصر واصطحاب قومه معه.
والغريب أن بعض قوم موسى كانوا لم يؤمنوا به بعد وقد ذكرهم الله في آياته فقال عز وجل:
{ فما آمن لموسى الا ذريّة من قومه على خوف من فرعون وملاءيهم أن يفتنهم, وان فرعون لعال في الأرض وانه لمن المسرفين} يونس 83.
لقد انتهى أمر فرعون, وانصرفت مشيئة الله عز وجل أن يوضع حد لجرائم هذا الكافر اللعين, بعد أن استنفدت معه كافة الطرق وخرج من رحمة ربه, صدر الأمر لموسى بالخروج من مصر, واستأذن بنو اسرائيل فرعون في الخروج الى عيد لهم, فأذن لهم وهو كاره, وتجهزوا للخروج وتأهبوا وحملوا معهم حليهم واستعاروا من حلي المصريين شيئا كثيرا.
ومع دخول الليل خرج بنو اسرائيل يتقدمهم موسى عليه السلام وسار بهم نحو البحر الأحمر قاصدا بلاد الشام.
وما هي الا لحظات حتى التقطت وسائل التجسس الخاصة بفرعون واستخباراته, التقطت أخبار خروج موسى مصطحبا قومه الى بلاد الشام وأنه خرج ليلا.
ثار فرعون ثورة عارمة, وأمر أن يحشد جيش عظيم, من كل المملكة, وقال في سياق أوامره الثائرة الغاضبة أن موسى غاظه, فقال:{وانهم لنا لغائظون} الشعراء 55, لقد غاظني موسى, ولا بد من قتاله والقضاء عليه وعلى بني اسرائيل.. وأعلن ذلك صراحةأمام الناس.
وفي وقت قصير جمع فرعون جيشا ضخما, جاء لمطاردة موسى والقضاء عليه, وخرج جيش فرعون مسرعا, كان المشهد مخيفا مهيبا لكثرة عدد الجند وكثافة السلاح الذي يحملونه في ذلك الوقت, بينما حمل بنو اسرائيل جزءا من متاعهم وخرجوا خائفين.
بدأت المطاردة العنيفة, فجيش فرعون يجري بأقصى سرعة, ويطوي الطريق طيّا, في حين أن موسى وبني اسرائيل لم يكونوا بهذه السرعة, لكثرة ما حملوا على ظهورهم وأكتافهم من متاع أحبوا أن يحتفظوا بها لأنفسهم, واقترب جيش فرعون من موسى وقومه, وكلما نظر القوم خلفهم هالهم هذا الجيش الضخم.
ومن بعيد.. ثار غبار يدل على أن جيش الفرعون يقترب, واقترب فعلا وظهرت أعلام الجيش, وامتلأ قوم موسى بالرعب.. لقد كان الموقف حرجا وخطيرا جدا, لقد وجدوا البحر أمامهم والعدو الظالم خلفهم يلاحقهم كي يقضي عليهم وليست أمامهم فرصة واحدة للدفاع عن أنفسهم, انهم مجموعة من النساء والأطفال والرجال غير المسلحين.
لو لحق بهم فرعون فسيذبحهم جميعا, ولن يبقى منهم أحدا.
بدأت الناس تبكي خوفا, ونادت أصوات تقول:
سيدركنا يا موسى.. سيدركنا فرعون.
فقال لهم موسى عليه السلام بهدوء واطمئنان شديد:
كلا.. ان معي ربي سيهدين.
لجأ موسى عليه السلام في هذه الللحظات الى ربه, اذ لا ملجأ الا اليه سبحانه عز وجل, فتلقى أمرا صريحا ووحيا كاملا بأن يضرب بعصاه البحر.
جاء ذلك في القرآن الكريم فقال عز وجل:
{فأتبعوهم مشرقين* فلما تراآ الجمعان قال أصحاب موسى انا لمدركون* قال كلا ان معي ربي سيهدين * فأوحينا الى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم}
نفذ موسى عليه السلام أمر ربه, ضرب البحر بعصاه فانفلق البحر نصفين, وكانت معجزة هائلة من المعجزات التي منّ الله بها على موسى عليه السلام.
انشق طريق صلب يابس في وسط البحر وأصبح الموج كالجبل الراسخ عن اليمين وعن اليسار, وتقدّم موسى وقومه في وسط هذه المعجزة المدهشة, التي كان يجب أن تتعظ بها جيوش الباطل التي تلاحقهم وتطاردهم.
تقدّم موسى وسار بهم عبر البحر, كانت المعجزة هائلة بكل المقاييس. طريق يابس, وسط أمواج من البحر تموج عن يمين وتموج عن شمال ولا تغرق هذا الطريق الذي انشق في وسطها, والغريب أن جيش فرعون سوف يتابع المسير خلفهم دون النظر أو الدهشة أو التمعن والاعتبار, كل هذا لم يرد على عقول مغلقة, أغلقها الكفر, فخسرت نور الايمان.
لقد كانت الأمواج تعلو وتهبط وتتصارع فيما بينها ولكنها ما ان تصل الى الطريق المشقوق
وسط البحر حتى تبدو وكأن يدا خفيّة تمنعها من أن تغرق هذا الطريق أو حتى تبلله.
وصل فرعون الى البحر, وشاهد هذه المعجزة, شاهد البحر وقد انشق نصفين, ووجد فيه طريقا يابسا. أحسّ في البداية بالخوف, ولكنه زاد في عناده ونسي كل تأمّل وعبرة, وأمر عربته أن تنطلق في هذا الطريق العجيب, فتقدمت عربته مسرعة تقطع الطريق, ولحقه جيشه القوي الجرّار في الطريق, واشتدّت المطاردة هنا وهناك, وأصبح الفريقان على مرمى البصر من بعضهما, ولكن موسى وقومه كانوا قد عبروا البحر, قبل فرعون, وعند خروج آخر فرد من بني اسرائيل من طريق البحر ووقوفه على الضفة الأخرى, التفت موسى عليه السلام الى البحر وأراد أن يضربه بعصاه ليعود كما كان, ولكن الله عز وجل أوحى الى موسى أن يترك البحر على حاله كما هو.
كان موسى يريد أن يفصل البحر بينه وبين فرعون لينجو بقومه من بطش فرعون, مخافة أن يلحق بهم ويبطش بهم ويعذبهم, ولو أنه ضرب البحر ربما لتغيّرت أحوال لاندري ما هي ولكنّ الله عز وجل قال له: {واترك البحر رهوا انهم جند مغرقون} الدخان 24.
هكذا شاءت ارادة الله, لقد أراد الله اغراق الفرعون, ولهذا أمرموسى أن يترك البحر على حاله.
ووصل فرعون بجيشه الى منتصف البحر, وتجاوز منتصفه وكاد يصل الى الضفة الأخرى.. وأصدر الله عز وجل أمرا الى جبريل فحرّك الموج, فانطبقت الأمواج على فرعون وجيشه.
وغرق الفرعون وجيشه, غرق مع كفره وعناده "لقد غرق الكفر ونجا الايمان", وعندما غرق فرعون رأى مقعده في النار وهو يغرق, لذلك أدرك وقد انكشف عنه الحجاب, أدرك أن موسى عليه السلام كان صادقا أمينا, ولم يكن ساحرا أو كاذبا كما ادّعى عليه أمام جموع الكفار من قومه, أدرك أنه عبد ذليل, ولن يكون في يوم من الأيام ربّا كما زعم أمام الناس.
دخل فرعون في سكرات الموت, وأدرك أيضا أنه كان مخطئا عندما حارب موسى عليه السلام وطارده وعاداه وقرّر أن يؤمن في هذه اللحظة, جاءت هذه اللحظة في القرآن الكريم في الآية الكريمة التي تقول:
{ حتى اذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا اله الا الذي آمنت به بنو اسرائيل وأنا من المسلمين} يونس 90.
هل قبلت توبة فرعون؟ لا لم تفبل توبته, لأنها جاءت بعد أن أدركه العذاب والموت, وقد قال له جبريل عليه السلام:{ آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين} يونس 91.
انتهى الوقت المحدد للتوبة, توبة فرعون, وانتهى الأمر ولا نجاة من الغرق والموت, سينجو جسدك وحده, ستموت وتقذف الأمواج جثتك الى الشاطئ, لتكون آية وعبرة لمن بعدك.
قال عز وجل:{ فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية, وان كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون}. يونس 92.
هذه معجزة البحر مع موسى عليه السلام, انها واحدة من المعجزات العظيمة التي أفاء الله بها على عبده موسى عليه السلام. وما أكثر المعجزات..