بقلم إدريس ولد القابلة
أصر الحسن الثاني، أن يكون على رأس فُرق الجيش التي أشرف والده محمد الخامس على فكرة إنشائها سنة 1956 عقب رحيل الاستعمار المباشر، وتسمية تلك الفرق "القوات المسلحة الملكية". غير أن الحرص الأكبر تمثل في "تفكيك" خلايا جيش التحرير المغربي، سواء بالإتفاق المغري بعطاياه مع بعض قادته، أو بالقوة المدعومة من الجيشين الفرنسي والاسباني كما حدث مع فصائل الجيش المذكور في الجنوب، وبذلك تم وضع نهاية غير سعيدة لواحد من أفضل جيوش المقاومة والتحرير في البلدان العربية، إبان فترة الاستعمار، ومجتمعات العالم الثالث.
وبذلك دخل المغرب مرحلة التنظيم الرسمي للجيش، الذي أطرته رؤية جديدة تمثلت في الدفاع عن المؤسسة الملكية قبل أي شيء آخر، لذا كان الاستعمال الأول من طرف المؤسسة المذكورة لرجال الجيش في "معارك" داخلية لقمع الانتفاضات الشعبية كما حدث ذلك في سنة 1958 – 1959 بمنطقة الريف المغربي، حيث تم سحق المدنيين العزل، بمن فيهم النساء والأطفال والشيوخ، على يد فرق للجيش الملكي بقيادة مباشرة من الحسن الثاني، في مرحلة كان ما يزال خلالها وليا للعهد، وكما حدث أيضا في انتفاضة 23 مارس من سنة 1965 بالدار البيضاء، حيث أطلق الجنرال اوفقير بأمر من الحسن الثاني، النيران على آلاف المتظاهرين، مما خلف عددا كبيرا من الضحايا ما زال أمر منح رقم دقيق بشأنها من أسرار الدولة إلى غاية اليوم.
وبذلك تكرست "الوظيفة" الأساسية لقوات الجيش الملكي في المغرب، كما كان عليه الأمر، وما زالت في كل البلدان العربية، باعتبارها فلول قتال مُدججة بأحدث الأسلحة للدفاع عن الأنظمة القائمة ضد شعوبها، غير المُؤطرة، في الغالب، والتي يُمكن أن تأتي انتفاضاتها غير المتوقعة على الأخضر واليابس، وفي المقدمة الأنظمة القابضة على زمام السلطة بيد من حديد، ومحفوفة بالنار.
وكان "طبيعيا" أن يعرف المغرب أيضا تجربة تضخم مهام ودور الجيش، كما حدث ذلك في بلدان عربية عديدة، حيث بدأت قيادات تلك الأداة المحاربة بِلَعِبِ أدوار طلائعية في الساحة السياسية.
فجاءت ادوار الانقلابات، التي كاد اثنان منها أن يأتيا على حياة الحسن الثاني والنظام الملكي ببلادنا، وذلك خلال أقل من سنة ( 10 يوليوز 1971 و 16 غشت 1972)، وكانت المبررات السرية، التي سيقت عن دوافع الانقلابين المذكورين، أن بعضا من كبار ضباط الجيش مثل الجنرال محمد المذبوح والكولونيل محمد اعبابو وليوتنان كولونيل محمد أمقران.. إلخ كانوا قد ضاقوا ذرعا بالفساد المالي والإداري لنظام الحسن الثاني، وبالتالي ارتماؤهم في المغامرتين الانقلابيتين المذكورتين.
وبفشل هاتين الأخيريتين، استطاع الحسن الثاني، أن يملك عمرا "إضافيا" كافيا، مكنه من القيام بتغييرات كبيرة جدا على البنية العامة لقيادة وقاعدة الجيش، حيث ألح على تغيير خارطة بنية جنرالاته، الذين لقي أغلبهم حتوفهم سواء أثناء العملية الانقلابية الأولى، أو اثناء "حفلات" الإعدامات التي نظمها لهم الحسن الثاني على مرأى ملايين المغاربة الذي تابعوا عمليات قتل بعض من خيرة أطر الجيش المغربي، مباشرة عبر شاشات التلفزة، ليلة عيد أضحى.
وتوجه الحسن الثاني بعد فراغه من مهمة "تنظيف" الجيش إلى الضباط الجدد الذين كان قد عينهم وفق معايير جديدة، ليس من بينها على كل حال الكفاءة العسكرية الميدانية، قائلا لهم في عبارة وجيزة ستسجلها أركان التاريخ إلى آخر رمق للزمن المغربي، وهي "اجمعوا الأموال واتركوا السياسة". وكذلك كان، حيث اندفع إلى الصفوف الأمامية لقيادة الجيش أناس، مثل الجنرال عبد العزيز بناني، انصرف كل همهم إلى مُراكمة الثروات ولا شيء غير ذلك، غير أن المعضلة كانت متمثلة في شح نسبي لمصادر الاغتناء الداخلي، لذا كانت مرحلة حرب الصحراء مواتية لتوجيه أطماع قادة الجيش المتصارعين حول مصادر الثروات. وهناك في الصحراء "أينعت" كل أشكال الاستغلال والتهريب والاتجار في وسائل التموين.. إلخ، مما سجلته العديد من الشهادات. ونقف من بين هذه الأخيرة، على ما خلفته قضايا القبطان مصطفى أديب، وضابطا الصف الجالطي والزعيم، لتؤكد على حجم الفساد في أوساط الجيش في "الداخل"، أما في منطقة الصحراء فقد كان كتاب الضابط الهارب إلى فرنسا، المحجوب الطوبجي، "ضباط صاحب الجلالة" ضافيا في مجاله.
كانت الخطة الملكية واضحة حينها، في ترك ضباط الجيش يغتنون ملء جيوبهم، وبالتالي الابتعاد عن قضايا السياسة وهموم البلاد والعباد، وبذلك توفر للجيش المغربي عينة من "القادة" لُقبوا بضباط الصالونات، شأن أولئك الذين لا يهمهم من أمر مسؤولياتهم سوى استخدام الوسائل البشرية واللوجستيكية والخدماتية لقضاء مآربهم، منهم مثلا ذلك الجنرال الذي يستخدم الشاحنات العسكرية المرصودة لجنوده لتسويق الزيوت التي تُنتجها ضيعته الكبيرة في إحدى ضواحي بني ملال.
وباحتساب كل مصادر الثروة الجديدة التي منحتها حرب الصحراء منذ سنة 1975، فقد توفرت ثروات بالملايير لعدد محدود من جنرالات وكولونيلات الجيش، حيث تعددت الاستغلاليات من "أسواق" إعادة بيع البنزين المُخصص لأفراد الجيش إلى وسائل التغذية البسيطة، مثل علب السردين وقطع "الشفنج" إلى احتكار رخص الصيد في أعالي البحار، ومناجم الفوسفاط ... إلخ. ثروات بلغ من مظاهرها أن أحد العارفين اكتشف يوما أن زوجة احد كبار ضباط الجيش المغربي كانت ترتدي في إحدى المناسبات الاجتماعية الباذخة، قرطين يساوي كل واحد منهما ثمن مدرعة حربية حديثة.
غير أنه للحقيقة لم يكن هناك ضباط الجيش فقط ممن استفادوا من حرب الصحراء، فقد كان لكبار رجال المخزن أيضا من مُختلف الضفاف نصيبهم، حيث نال رجال المخزن، من سياسيين ومثقفين وكبار الموظفين رخص الصيد في المنطقة الجنوبية، مما جعلهم من كبار الأثرياء بعدما كانوا شبه مُعدمين لا يجدون إلى سبل العيش منفذا إلا بشق الأنفس، وكانت تلك طريقة الحسن الثاني في صٌنع "بورجوازييه" الذين لن يكون بمقدورهم أبدا التخلي عن المصدر الذي يستمدون منه نعيمهم، أي المؤسسة الملكية.
لذلك لا يُمكن للمرء أن يقف كثيرا أمام "الاعتبارات" الكثيرة التي تقف أمام إفشال كل المحاولات البرلمانية الخجولة لمناقشة (مجرد مناقشة) قانون يطرح هذا السؤال الشائك على خُدام الدولة (هل هم حقا كذلك ؟!): من أين لك هذا؟
ويبدو من خلال بقاء ذات نمط اقتصاد الريع، فضلا عن كثير من كبار المسؤولين المستفيدين من بقاء الأوضاع على ما هي عليه، في أكثر من قطاع عسكري أو مدني، أن إمكانيات الاستفادة أبا عن جد من "شكارة" المال العام، ما زال أمامها مستقبل زاهر شريطة أن يحترم المرشح هذه الاستفادة من "التقاليد المخزنية المرعية"، ومنها عدم التعرض، سرا أو جهرا، بسوء لأولياء النعمة من الماسكين بمقاليد أمور هذا البلد.
فلم يعد سرا اليوم أن العديد من أثرياء "العهد الجديد" أخذوا يحلون شيئا فشيئا، مكان أثرياء "العهد القديم"، حيث تسلم مثلا محمد منير الماجيدي قطاع الإشهار العمومي من آل صديق الحسن الثاني ومستشاره رضا اكَديرة، وقل ذات الشيء عن العديد من الأشخاص والقطاعات، مما يُحيل على أن الأمر يتعلق ب "وزيعة" يتسابق الجميع، كل حسب درجة قُربه من دائرة مركز القرار لنهب "نصيبه" منها.
ويُتحدث الآن عن عمليات بيع لرخص الصيد في أعالي البحار يقوم بها العديد من كبار خُدام المخزن على عهد الحسن الثاني، لأنهم لم يعودوا يتوفرون على "الحماية" الكافية لاستغلالها.
هكذا إذن "تنازل" العديد من كبار الضباط خلال الآونة الأخيرة في صمت تام، عن العديد من امتيازات الاستغلال التي كانت ممنوحة لهم، بعد إحالتهم على التقاعد، وذلك بطبيعة الحال بضغط من أولياء الأمور الجدد في أكثر من مجال قيادة لفرق الجيش، وبذلك يتجدد جلد قيادة الجيش، مع الاحتفاظ بنفس الشكل والمضمون القديمين، وليظل عدد قليل من كبار الجنرالات في مناصبهم، مثل عبد العزيز بناني وحسني بنسليمان، صونا "للاستمرارية" المخزنية العتيدة.
ثراء جنرالات المغربإن الحديث عن الثراء في صفوف المؤسسة العسكرية يستوجب التمييز بين مرحلتين أساسيتين، ما قبل الانقلابين العسكريين وما بعدهما.
فقبل السبعينات كانت آليات تراكم الثروة والثراء بالنسبة لكبار ضباط الجيش تقتصر على بعض الإغراءات والهبات، والمستفيدون منها كانوا يشكلون استثناءا خلال تلك المرحلة، إلا أنه ابتداء من سنة 1973، أضحى الثراء في صفوف كبار الضباط سياسة معتمدة عبر منح جملة من الامتيازات (الرخص، الكريمات، استغلال مقالع الرمال، الأراضي الفلاحية، الصيد في أعالي البحار...).
وهذا ما جعل مجموعة من كبار ضباط الجيش يلجون عالم رجال الأعمال والمقاولات الكبرى. وجاءت قضية الصحراء لتشكل فرصة غير مسبوقة في تاريخ المغرب عبر توفير آليات مراكمة الثروة لدى كبار الضباط، سواء من خلال الامتيازات والرخص والتسهيلات المشروعة لضمان الولاء للنظام وإبعادهم عن الاهتمام بالسياسة تفاديا لما حدث في السبعينات، أو عبر أساليب غير مشروعة تقع على هامش القانون أو باعتماد طرق غير شريفة.
منذ ئذ شكل الجيش فضاءا لمراكمة الثروات والامتيازات بالنسبة لكمشة من الضباط الكبار، إذ بدأت مسيرة اهتمامهم بالثراء بجميع الوسائل في عهد الجنرال أحمد الدليمي، الذي يعتبر أول نموذج لضابط سامي اغتنى بسرعة عبر الاستيلاء على بعض الشركات التابعة للمخابرات الخارجية (لادجيد) وتوظيفها لصالحه، والاستيلاء على بعض الأراضي وممتلكات الدولة والغير، وإرغام عدة أشخاص على تسليمه عقاراتهم بأسعار يختارها، هذا علاوة على تحويل أقساط مهمة من أموال الصفقات.
بعد ذلك سطعت أسماء أخرى في سماء الثراء السريع، إذ إلى حدود سنة 2003 تربع الجنرال حسني بنسليمان رفقة الجنرال عبد الحق القادري على "عرش" قطاع الصيد في أعالي البحار بفضل شركة "كابن" قبل اضطرارهما للتخلي عن الواجهة وتفويتها بفعل تعليمات من جهات وازنة، بعد أن كثر القيل والقال بخصوص "جنرالات أعالي البحار"، كما ارتبط اسم الجنرال عبد العزيز بناني بجملة من الصفقات الضخمة، منها صفقة اللحوم المبرمة مع استراليا والأرجنتين، وكذلك الذعائر المفروضة على مراكب الصيد على امتداد المنطقة الشاسعة بين أكادير والحدود المغربية الموريتانية.
وحسب العارفين بخبايا الأمور، خلال فترة قصيرة، أضحى الجنرال عبد العزيز بناني يتربع على "عرش" ثروة هائلة نمت بوتيرة سريعة منذ اضطلاعه بالمسؤولية، وهذا أمر شكل موضوعا تهافت عليه الكتاب والإعلاميون، المغاربة والأجانب، لكشف بعض جوانبه المستورة.
اهتم البعض بآليات ثراء الجنرالات بالمغرب وبالطرق التي تمكن عبرها بعضهم من مراكمة ثروات طائلة، رغم استفادتهم من أعلى الأجور العمومية المطبقة بالمغرب.
من تلك الآليات والطرق ما هو مشروع ومنها ما هو غير مشروع، ويمكن إجمالها كالتالي: رخص النقل، استغلال المقالع الرملية، رخص الاستيراد والتصدير، الاستفادة من الأراضي المسترجعة والخوصصة، الصفقات، تحويل أجزاء من الميزانيات وإعادة بيع المواد الغذائية، الصيد في أعالي البحار... بل منهم، حسب بعض المصادر، من تجرأ على مراكمة ثروات بواسطة التهريب وبيع المعلومات للعدو.
فالصفقات، ذات علاقة بالمؤسسة العسكرية، ظلت مستثناة من قواعد الشفافية المعمول بها، ولازالت حتى الآن داخل مناطق الظل، وهناك عدد من الفضائح تم الكشف عنها، منها تلك المرتبطة بصفقات بعض الأسلحة وصفقات الحليب واللحوم وتمويل الثكنات وقضية تهريب البنزين لإعادة الاتجار به.
كما ظلت الميزانية العسكرية مصدر ثراء لا ينضب، إذ أن جزءا منها عرف طريقه إلى بعض الجيوب، سيما خلال حرب الصحراء التي كانت تكلف البلاد أكثر من مليار شهريا، وهي الميزانية التي مازالت بعيدة ومبعدة عن مراقبة المجلس الأعلى للحسابات.
فالجيش يمتص حصة الأسد من الضرائب التي يدفعها المغاربة، ويستحوذ على 45 بالمائة من الناتج الداخلي ويستفيد ما بين 14 و 15 بالمائة من الميزانية العامة.
كما شكل تجويع الجنود إحدى طرق ثراء بعض كبار الضباط، في هذا الصدد قال أحد ضباط الصف " يكفي الاطلاع على ما يقدم من أكل للجنود ومقارنة ثمنه الحقيقي بالأسعار المثبتة في الفواتير المدلى بها لكي تتجلى عملية تحويل مبالغ مهمة إلى بعض الجيوب المعلومة".
لم ينج تموين الثكنات بالمواد الغذائية وتغذية الجنود من الفساد، إذ شكل إحدى آليات الثراء غير المشروع، بما في ذلك التلاعب بالصفقات والأسعار المعتمدة، وكذلك إعادة بيع المواد الغذائية المخصصة لتموين الجيش، من زيت ودقيق وغيرهما، لاسيما بالجنوب، بل هناك بعض الضباط الكبار الذين نزلوا إلى حد استغلال نشاط البقالة في الكثير من الثكنات والمعسكرات، خصوصا بالصحراء، حيث فتحوا محلات لبيع مواد غذائية باثمنة تفوق بكثير أسعارها بالسوق.
وفي هذا الإطار، قال أحد ضباط الصف: "يكفي النظر إلى الثروات التي أضحى يتوفر عليها الآن الضباط المسؤولون على التموين".
وعموما شكل البحر مصدر ثراء بالنسبة لبعض الضباط السامين، سيما الذين ارتبط اسمهم بالصحراء، حيث لم يقتصر الأمر على الاستفادة من رخص الصيد في أعالي البحار، المرتبطة بضرورة القيام باستثمارات مهمة وإنما بطرق أخرى، أهمها فرض غرامات وأتاوات على سفن صيد مغربية وأجنبية وتحويل مبالغها إلى حسابات خاصة عوض أن تعرف طريقها إلى الخزينة العامة.
فقبل 2004، منحت رخص الصيد في أعالي البحار للمقربين والجنرالات، وهكذا استفاد صاحب شركة "كوبيسكا" من 7 رخص (سفير سابق بالأمم المتحدة) ومجموعة "أونا" من 30 رخصة، واستفاد صاحبا شركة "كابن" (وهما جنرالان) من 8 رخص وشركة الزبدي (وصاحبها جنرال سابق) من 17 رخصة وشركة "فاسود" من 14 رخصة.
ففي فترة من الفترات برزت الكثير من التساؤلات بخصوص المبالغ المالية المهمة، والمؤداة بالعملة الصعبة، وفي هذا الصدد أفادنا ضابط صف متقاعد عمل بالصحراء لسنوات، أنه كان يقوم بنقل حقائب "سامسونيت" مليئة بالعملة الصعبة من مدينة الداخلة إلى جهات معينة بالرباط والدار البيضاء وطنجة دون تحديدها، وذلك بانتظام إلى حدود منتصف التسعينات.
من المعلوم، أن الدولة اختارت خلال فترة معينة الإنعام على بعض الجنرالات برخص الصيد في أعالي البحار، علما أن الجيش هو المكلف بحماية الثروات السمكية وحراستها، وقد استفادت مجموعة من كبار الضباط من هذا القطاع لدرجة أنهم أضحوا يشكلون بمعية بعض المدنيين لوبيا قويا بإمكانه التأثير على مختلف القرارات المرتبطة بالقطاع.
وأكد لنا مصدر من الوزارة المعنية، أن الضباط الكبار الذين استفادوا في البداية من امتيازات الصيد في أعالي البحار، استفادوا أيضا من حقوق استغلال الثروة السمكية الوطنية دون دفتر تحملات ودون طلب عروض عمومية، وذلك رغم أن الوزير السابق للفلاحة، رفض الكشف عن لائحة المستفيدين، مع نفيه أن يكون هناك اسم جنرال واحد باللائحة والتأكيد على أن وزارته لم تُسلِّم أية رخصة منذ 2004.
وقبل أعالي البحار استفاد كبار الضباط وذووهم من مقالع الرمال، وقد جعلهم موقعهم بعيدين عن المحاسبة وتطبيق الإجراءات التي تفرضها القوانين المنظمة لهذا القطاع. وغالبا ما كان يتم تسجيل رخص الاستغلال في اسم أحد الأبناء والأقارب، وقد تَمَّت معاينة إحدى اللوائح الخاصة ببعض مقالع منطقة الغرب (القنيطرة) تضمنت أسماء من قبيل هشام باحنيني، وحرمة الله محمد الأمين، وسالمة ومريم بنسليمان، ونزهة عرشان، وكريم وجواد لوبازيز.... وما هذه إلا عينة؛ كما وجب التذكير في هذا الصدد، بفضيحة السفينة الفولادية التي كانت تنهب الرمال القعرية بشواطئ الشمال وكانت تعمل لحساب شركة يديرها مسؤول عسكري رفيع المستوى إلى جانب ابنه وابن عامل سابق.
ويذهب البعض أن هناك من استفاد من التهريب لتسريع وتيرة مراكمة الثروات، بدءا بتهريب المواد الغذائية المدعمة بالأقاليم الصحراوية، مرورا بتهريب السجائر والإبل وغض الطرف على شبكات التهريب النشيطة في جنوب الصحراء.
وقد شوهدت أكثر من مرة بواخر تفرغ حمولتها من السجائر المهربة بموانئ الجنوب، سيما ميناء مدينة الداخلة، وفي هذا الصدد وجهت أصابع الاتهام إلى القائمين على الأمن والمخابرات العسكرية، التي تراقب كل شادة وفادة بموانئ الجنوب.
وقد ساهم قرب جزر الكناري من الأقاليم الصحراوية، في بروز فضاءات للتهريب، مما أتاح لبعض الضباط فرصة مراكمة الثروة.
أوراق الطوبجي
يوم قال الحسن الثاني لضباط جيشه: "اجمعوا المال واتركوا السياسة"منذ قرابة خمسة وثلاثين سنة، أي حينما كُنتُ ضابطا شابا بحامية مدينة الرباط، سمعتُ الحسن الثاني يقول أمام عدة مئات من الأطر العسكرية المغربية: "إذا كان هناك من نصيحة يجدر أن أمنحكم إياها فهي أن تعملوا على جمع المال منذ الآن، وان تبتعدوا عن السياسة"، منذ ذلك الحين وأنا أتساءل عن مهنتي وعن مساري العسكري. صحيح كان الحسن الثاني قد أفلت حينها من انقلاب عسكري، وليس من شك أن مروره بجانب موت مُحقق كان قد زعزعه. وقد أثار قوله ذاك دهشة لدى عينة من الضباط الذين استمعوا إليه، بالرغم من أن هؤلاء لم يُعبروا عن مشاعرهم علانية، وذلك بالنظر إلى طبيعة المرحلة، حيث فضلوا الاحتفاظ بها لأنفسهم. أما فيما يتعلق بي فقد كان ذلك بمثابة صدمة قوية. كُنت أنتظر منه أمرا آخر تماما باعتباره ملكا، وقائد الجيش.
هكذا إذن ظهر نوع جديد من الضباط، النفعيين والانتهازيين، منهم احمد الدليمي، القابع على قمة الهرم في الجيش، والذي كان بمثابة النموذج الذي يُحتذى. حيث أصبحت مؤسسة الجيش التي كانت حتى بداية سنوات عقد الستينيات تعتبر مثالا للاستقامة ونكران الذات، ثم صارت شيئا فشيئا عبارة عن سوق، حيث كل شيء يُباع فيه ويُشترى، بما في ذلك الأرواح.
إن المسؤول الأول عن هذا الوضع كان هو الحسن الثاني بذاته، لقد كان قد وقع قبل ذلك ما أكد المنحى السلبي المذكور،وبالتحديد في نهاية عقد ستينيات القرن الماضي، وذلك من خلال السهولة التي كان يخلط بها بين المال العام والاعتماد المالي المرصود له، حيث إن تضاعف قضايا الارتشاء كان قد أكسبه عداوة الكثيرين. وهنا تقفز للذهن دوافع الجنرال محمد المذبوح قائد الانقلاب العسكري الأول بالصخيرات ( يوليوز 1971 ) الذي ارتمى في تلك المغامرة المأساوية، لأنه وصل إلى حد لم يعد يستطيع معه تَحَمٌُّل الصورة السلبية التي كان يمنحها النظام المُرتشي الذي كان الحسن الثاني قد اعتمده.
كيف أصبح الجيش منخورا بالرشوة؟
خلال تلك المرحلة، كان الضباط الذين اضطلعوا مثلي بتكوين أطر الجيش المستقبليين، القابعين في الأكاديمية العسكرية بمكناس، مُبعدين عما كان يجري بين صفوف الجيش، وفي منأى عن تلك الممارسات. غير أن بعضا من قدامى تلاميذي، ممن كانوا رجالا لهم مبادئ، ضمن الذين التحقوا، طوعا أو كرها، بركاب المحاولتين الانقلابيتين، قد أدوا الثمن بحياتهم، أو تلقوا فظاعات واحد من أبشع سجون القرن العشرين، وأقصد تازمامارت. إن ذهني يذهب إلى عزيز بينبين وعبد العزيز الداودي واحمد المرزوقي وباقي الناجين. وأفكر أيضا في كل أولئك الذين ماتوا دفاعا عن بلادهم، في حين أن بعضا من رؤسائهم العسكريين، الأنذال والأوغاد لم يكونوا يُفكرون سوى في أسهل الطرق لملء جيوبهم. ولن أنسى أيضا أولئك الذين تهجع هياكلهم العظمية تحت الرمال في الصحراء. أقصد منهم على نحو خاص رفاق دفعة تخرجي عمر العيساوي وأوسليم وعبد الكريم الخطابي، الذين ماتوا ثلاثتهم في الصحراء سنة 1977، الأول في السمارة والثاني في بير انزران والثاني بالقرب من توكات. لا أحد منهم كان له قبر وشاهدة، غير أننا دافعنا من أجل أن يحمل زقاق أحد أحياء الرباط اسم العيساوي عمر.
إن حرب الصحراء الغربية، منحت بالفعل، بدءا من منتصف سنوات السبعينيات، دفعة قوية لتلك العقلية الميركانتيلية الوليدة، ذلك أن القرب الجغرافي من جزر الكاناري، إذا ما اقتصرنا على ذكر هذه الأخيرة لوحدها، هي التي تُسهل عمليات القيام بكل أنواع وأشكال التهريب، حيث إن بعض الضباط الذين كانت أجورهم موازية لأجورنا، وجدوا أنفسهم بعد حين، وبسرعة، على رأس ثروات حقيقية. ومنذئذ وبعد مرور ثلاثة عقود (...) أصبح الجيش المغربي منخورا بالرشوة وبكل أنواع الزبونية والمحسوبية والفساد.
ضباط يبيعون "الشفنج" لجنودهم في الحرب كما في كل عمل جدي، لا تكون هناك أسرار: فإما أن تعمل بجد أو تؤدي الثمن غاليا. وقد أدينا في الصحراء غاليا، ثمن تجاوزات وانحرافات العديد من المسؤولين العسكريين، الذين كان همهم الأساسي الربح المادي، حيث كرسوا كل حيلهم، وكل قدراتهم، لجمع ثروات ضخمة عن طريق التهريب مع جزر الكاناري، وذلك بابتلاع كل شيء سقط بين أيديهم، وبشكل خاص ما كان مخصصا لمرؤوسيهم من الجنود وضباط الصف: المواد الغذائية والخدمات... إلخ، وقد شاهدنا رؤساء فُرق عسكرية، مثل الكولونيل "أوعيا"، يبيعون "الشفنجات" لجنودهم أو مضاعفة ثمن المشروبات الغازية التي تُسوق في ثكناتهم، وفي المُقابل فقد عُرِفوا بعدم كفاءتهم على المستوى العسكري، ولا مبالاتهم بمصائر مرؤوسيهم، مما كانت له نتائج درامية. وحسب علمي فإنه باستثناء ال 2300 أسير فإن حصيلة تلك المرحلة الحزينة كانت مقتل آلاف الجنود (وحده قائد الجيش في المنطقة الصحراوية إلى حدود سنة 2004 ونقصد الجنرال عزيز بناني وبعض من مُقربيه يعرفون الأرقام الحقيقية)، وبالتالي عشرات آلاف اليتامى. ويُضاف إلى هذا آلاف النساء الأرامل اللواتي وجدن أنفسهن بين عشية وضحاها في الشارع بدون أدنى فلس.
الجنرال بائع الزيوت ثمة مشكلا آخر أساسيا ومُقلقا كان يُزعج رجال الجيش في الصحراء، ويتمثل في أن القيادة كانت قد قررت إجازة من خمسة عشرة يوما عن كل ثلاثة أشهر بالنسبة للضباط. وبالمقابل فإنه لم تكن هناك قاعدة معمول بها بالنسبة لضباط الصف والجنود، حيث كان الأمر يتقرر حسب وجه الزبون، ومن ثم كان هناك جنود لم يحصلوا على إجازات لرؤية ذويهم لمدد وصلت إلى ستة عشرة شهرا مثلا، وبالأخص في "كَلتة زمور" على بُعد 250 كلم من مدينة العيون، حيث كانت المعنويات في أحط مستوياتها، وكان من نتائج ذلك أن تلك البلدة التي تُشبه قلعة حقيقية مُحصنة، والتي اعْتُبِرت من طرف كل الضباط غير قابلة للاختراق، تم التخلي عنها للعدو في سنة 1978 . وكان مطلوبا أن تندلع معارك حقيقية بالمدرعات والطائرات لاستعادتها شهورا بعد ذلك (...).
هذا بينما كان مُختلف قادة الفُرُق العسكرية يرتشون بشكل أكبر فأكبر. حيث كان هناك نشاط لكل الأذواق: الذين يبيعون البنزين، والذين كانوا يبيعون الزيت والدقيق المُخصصين أصلا للجنود. ثمة على سبيل المثال الجنرال "كَريمة" الذي ينحدر من بني ملال والذي كان قائدا للقوات المساعدة في الجهة الجنوبية لمدة عشرين سنة، يتوفر على ضيعة جميلة بالقرب من المدينة التي ينحدر منها. لقد استقدم من اليابان متخصصا في الديكور لكي يضع لمسته الخاصة على إقامته. بحيث أن كل غرفة نوم تتوفر على مدفأتها الخاصة. ولم أندهش عندما علمتُ أن الجنرال المذكور يُنتج زيت الزيتون، في حين أنه كان محسوبا على مهمته القيادية بالصحراء، غير أن ما تجاوز كل الحدود هو أنه كان يستخدم شاحنات القوات المُساعدة ورجاله ليُوزع زيوته.. ناهيك عن مثل هذا التساؤل: أين يُمكن أن نجد جيوشا في العالم الحالي حيث يُمكن لبعض الجنرالات أن يلجؤوا لخدمات متخصص في الديكور من اليابان؟ لا يُمكن أن نعثر على ذلك سوى في المغرب.
كيف باع الكولونيل فيلتين ولماذا؟ والجنرال تاجر الجِمال منذ بضع سنوات، وبالتحديد سنة 1997 حكى لي بعض الأصدقاء الضباط أنهم سمعوا في نادي الضباط ضابطا برتبة كولونيل ثملا، يعترف باكيا أنه قام ببيع منزلين عبارة عن فيلتين ليحصل على مهمة قيادية. ويُمكننا في البداية أن نتساءل عن الشروط التي حصل خلالها ذلك الكولونيل على الفيلتين المذكورتين. لكنه من الواضح، خصوصا، أن الحصول على موقع قيادي يُعتبر الوسيلة المناسبة للحصول على رتبة جنرال ومن ثم لملء الجيوب عن آخرها. وبالتالي فإن الفيلتين سرعان ما سيتم نسيانهما.
إنه من الصعب الحديث عن صراع الصحراء دون استحضار السور الدفاعي العجيب الذي تم تشييده سنة 1980 تحت إشراف الجنرال الدليمي، والذي تم الانتهاء منه سنة 1984 ، حيث إنه عند موت الجنرال المذكور كانت ما تزال هناك بضع مئات من الكيلومترات تنتظر التشييد في اتجاه مدينة الداخلة. لقد تمت كتابة العديد من الترهات عن السور المذكور، والذي لا يُشبه في شيء سور برلين ولا حتى سور العار الذي شيده الإسرائيليون للتقليص من العمليات الإرهابية (هكذا في النص - المُترجم). إن السور في الصحراء عبارة عن حاجز يسهل اجتيازه نسبيا، حيث ثمة موقع حراسة مغربي على مدى كل عشرين أو ثلاثين كيلومترا، كما أن هناك أسلاكا شائكة وبضعة ألغام تم وضعها هنا وهناك، غير أن القول بأن السور المذكور يقوم بدور درعي يُعتبر من قبيل المزحة. لقد رأيتُ خلال عدة مناسبات صور فيديو التقطها صحافيون إسبان، حيث يُمكن أن نُشاهد جنودا للبوليساريو يعبرون السور متى شاؤوا وكما أرادوا. صحيح إنه - أي السور - يصل ارتفاعه في بعض المواضع إلى ثلاثة أو أربعة أمتار علوا، مما يُمكن من تخفيف تقدم "العدو" أو تحطيم تقدمه، غير أن لا شيء أكثر من ذلك. فحتى متسابقو رالي باريس دكار تمكنوا من عبوره عدة مرات. وفي الحقيقة فإن السور ساهم في طمأنة الساكنة بالمنطقة وأوقف التنقل عبر القوافل، ولا شيء آخر. وفي الحقيقة فإنه لا شيء يجعل السلم يستثب في المنطقة سوى اتفاق جيد بين الجنرالات الجزائريين والمغاربة. وقد وجد هؤلاء الأخيرون، الفرصة لاستخدام هذه الوسيلة. فحينما كنتُ أعمل بالجنوب، كانت ناقة تساوي مبلغ 500 أورو في موريتانيا. غير انه بمجرد الدخول إلى الصحراء وعبور ذلك السور العجيب، فإن ثمن نفس الناقة يتضاعف ثلاث مرات. في حين أن شاحنة عسكرية لا يُمكنها العبور دون إذن من الكولونيل المسؤول عن المنطقة، لذا فإنه حين لا يتوصل الجنرال عزيز بناني بعمولته عن كل عملية عبور فإن الكولونيل يتم تجريده من مسؤولياته وتنقيله. إن عمليات تهريب الجِمال كانت تخضع للمراقبة المباشرة من طرف قيادة عبد العزيز بناني، فهذا الأخير كان هو مَن يمنح أذونات الاستيراد.
ضباط يبيعون الحشيش لجنودهم ثمة أيضا ضباطا، كانوا يهربون ويبيعون الحشيش لجنودهم، لكنهم كانوا قلة لحسن الحظ، فقد كانت هناك عدة شبكات لتهريب الحشيش، وأتذكر جيدا كيف تم ذات يوم تفكيك إحداها، حيث كان يقودها ضابط كبير للجيش، هو اليوتنان كولونيل "ب" الذي خرج من هذه القضية سالما، ذلك لأنه كان محميا من طرف الجنرال عبد العزيز بناني، لأن لهذا الأخير صلة بأسرته، ولن أقول أكثر، عن ذلك الضابط الذي مات بضع سنوات بعد ذلك في حادثة طائرة هيليكوبتير.
والملاحظ انه بالرغم من كل أنواع مصالح الاستعلامات، من شرطة وبالأخص جهاز الدرك الموجود في عين المكان، فإن حالة مثل تلك لم يكن بإمكانها الإفلات عن عِلم القيادة، غير أنه يبدو أن هؤلاء وأولئك كانوا قد اتفقوا على الاغتناء على ظهر الجنود والوطن.. إن هذه الممارسات المشينة كانت تُغذي دائما أحاديث الضباط الشباب في الثكنات.
جُنودٌ فَضَّلوا الاستسلام للبوليساريو لأن الجنرال عبد الحفيظ كان يستولي على أجور أبنائهم وكما لو كان انعدام الكفاءة وفساد ذمم الكثير من أطر الجيش غير كافي، حيث كان مطلوبا منا أيضا أن نتحمل تجاوزات الإدارة التي كانت تحطم معنويات فرق الجيش أكثر. إن أسر الجنود على سبيل المثال، من الذين سقطوا أسرى في أيدي العدو، كانوا يستمرون في التوصل برواتب مُعيليهم، هذا في حين أن أسر الجنود الذين سقطوا قتلى تجد نفسها محرومة من نفس الرواتب بمجرد اختفاء مُعيليها، وذلك طوال شهور عديدة، أي خلال آجال ضرورية لوضع ترتيبات التعويض، ومن ثم فإنه لا يعود هناك مكان لمشاعر قتالية بين الجنود، حيث يُفضل الجندي أن يظل على قيد الحياة لتجنيب أفراد أسرته الحاجة، فذلك أفضل من القتال والموت من أجل أن يحصل أفراد أسرته على تعويض بئيس. وكان الحل بسيطا، أي أن يرفع الجندي يديه ويستسلم للعدو.
إن هذا ما يفسر جزئيا العدد الكبير للأسرى المغاربة لدى جبهة البوليساريو: أزيد من 2300 أسير.
وقد علمت فيما بعد أن الإدارة شرعت بعد ذلك في منح مبلغ 15000 درهم لأرامل قتلى الحرب لتمكينهن من التحمل في انتظار تسوية أمور التعويض، وللأسف فإن قسطا مهما من تلك المبالغ كان قد استحوذ عليه بدون حياء الجنرال عبد الحفيظ العلوي، وهو واحد من أفظع أكلةِ الجيف في عهد الحسن الثاني. وبعد موت عبد الحفيظ العلوي الذي يُعتبر عميلا قديما للاستعمار الفرنسي، الذي استعاده الحسن الثاني، تم استنطاق كولونيل يُدعى المكي، المسؤول عن أسر الجنود القتلى في الحرب، حول مصير المبالغ التي كانت مُخصصة للأرامل واليتامى، فكان أن اتهم حينها الجنرال عبد الحفيظ العلوي بأنه أمره بتسليمه مباشرة تلك المبالغ.
جنرالات أعالي البحارلقد كان عبد العزيز بناني حرا في أن يقود العمليات العسكرية كما يريد. غير أن هذا الجنرال الذي يجمع بالإضافة إلى قيادة المنطقة الصحراوية، مهام المفتش العام للقوات المسلحة، ومفتش سلاح المشاة ليست لديه إمكانيات رجل الاستراتيجيات. فهو مشغول بتدعيم المحسوبين عليه في الميدان أكثر من أي شيء آخر، سيما بخصوص الانقلابين العسكريين لسنتي 1971 و 1972، حيث كان الجيش موسوما بأنه بربري، لذا فقد وضع بناني رجاله في كل المراتب، وكرس كل طاقته لجمع ثروة طائلة على ظهر الجيش من خلال وضع آمرين بصرف التموين محسوبين عليه، وذلك بفضل أسواق اللحوم مع الأرجنتين واستراليا، ومحاضر الذعائر التي تهم رقعة شاسعة تمتد من مدينة اكَادير حتى الحدود الموريتانية، لذا يجد الجنرال بناني نفسه في وقت وجيز، على رأس ثروة طائلة. لقد انتهى بالنسبة إليه ذلك الزمن حينما كان قد طلب التدخل لدى الدليمي لمساعدته لأن حقلا للقمح يملكه في ضواحي تازة قد احترق.
ومن جانبه فإن الجنرال بنسليمان لم يتخلف عن أخذ حصته من هذه التركة، حيث لديه مصالحه وبالأخص تلك التي يشترك فيها مع الجنرال عبد الحق القادري في شركة الصيد "كابن"، والتي تدر مداخيل كبيرة جدا.
إن جشع العديد من الجنرالات وضباط الجيش معروف لدى الخاص والعام، لدرجة أن الصحافة الساخرة تحدثت عن "جنرالات أعالي البحار"، وذلك بسبب العدد الكبير من مراكب الصيد التي يملكها بعضهم (....).
حينما يخلف مرض السل ضحايا اكبر من الحرب ثمة أسباب عديدة يُمكن أن نفهم من خلالها لماذا سيكون هناك حل سلمي، وأن إعادة الجزء الكبير من الفرق العسكرية المغربية إلى شمال البلاد كان لها أثر سيء على قائد الدرك ( يقصد الجنرال بنسليمان ) والنخبة العسكرية التي ستجد أن عائداتها من حالة الحرب ستتضاءل بشكل كبير. كما أن الاحتفاظ بوحدات الجيش في الصحراء يمنح سهولة من أجل مراقبتها ويجعلها لا تمثل تهديدا مباشرا.
لذا فإنه بمباركة هذه القيادة العسكرية المٌُقلقة، فإن الحرب ستستمر بموكب قتلاها ومآسيها، هذا بالرغم من أنه منذ 1983 وحتى وقف إطلاق النار سنة 1991، لاحظنا لدى جبهة البوليساريو نوعا من العياء. ذلك لأنها كانت قد اعتمدت في البداية على خمسة آلاف محارب، غير انه بعد خمسة عشرة سنة من المعارك. لم تستطع العثور على ما يكفي من الشباب لملء الفراغات التي تركتها الأمراض والموت والجروح. حيث نعرف على سبيل المثال أن مرض السل قد ترك عددا من الضحايا يزيد عن أولئك الذين خلفتهم الحرب.
يتامى الحرب وأوراق يناصيب ليغتني الضباط الكبار إن العسكريين، وأتحدث هنا عن فُرُقِهم، لديهم أسبابا وجيهة ليكونوا مُحبطين. فلا شيء أُنجز لفائدتهم، هم الذين تخلوا منذ سنة 1975 عن زوجاتهم وأطفالهم. لذا يُمكن أن نتفهم ردود فعلهم حين يُعاينون انطلاق برامج إنشاء ألف سكن اجتماعي لا تعنيهم. لذا فكم كانت هناك من مأساة اجتماعية، وكم من حالات الطلاق، وكم من أيتام الحرب الذين تجاهلتهم الدولة، وإنني أتحدى أيا كان من المسؤولين أن يمنح العدد الحقيقي ليتامى الحرب: هل يتوفر هؤلاء على الأقل على اعتراف الوطن باعتبارهم يتامى حرب؟ وهل تتضمن نصوصنا القانونية تعريفات ليتامى الحرب؟
إن لدى المسؤولين مشاغل أخرى، حيث إنه في ظل النظام شبه الديمقراطي الذي يحكمنا، والمؤسسات التي لا تعدو كونها محارات فارغة، فإن الحُكم يُجسده جنرالات من قبيل أوفقير والدليمي ثم بنسليمان، حيث إنه في نظامنا التسلطي لا يُمكن أن يكون الأمر خلاف ذلك.
إن أول ما قام به الجنرال بنسليمان عقب موت الدليمي هو تغيير المسؤولين على رأس المكتب الثالث، وإدارة الأمن الوطني، والآلة المدرة للنقود التي تتمثل في المصالح الاجتماعية للقوات المسلحة. حيث جعل على رأس هذه الأخيرة رجلا فاسدا وهو كولونيل يُدعى "أعدول"، الذي كشف في نهاية المطاف أنه على شطارة أكثر مما بدا عليه أول الأمر، حيث عرف كيف يغترف ملء يديه من المصالح المذكورة، إلى حد أنه أصبح الممول الرئيسي لبنك كبير في الرباط، وإليكم هذا المثال، عن العديد من مصادر تلك المداخيل الهائلة من الأموال: يتم مرة كل سنة تنظيم توزيع آلاف أوراق اليانصيب على وحدات الجيش، حيث يكون إجباريا أن يتم بيع نسب مطلوبة منها، وتُضخ تلك الأموال المُجمعة إلى المصالح المذكورة.
سيطرة شبكات تبادل المصالح في القيادة العامة إن تدبير وإدارة أمور جيش لا يُمكن أن تتم بنجاح حينما نكون مشغولين بجمع الثروات، وهو الأمر الذي يوجد عليه أغلب أولئك الذين يُمسكون بمقاليد الأمور في تلك المؤسسة. فقد أصبحت مراكز ومدارس التدريب والتكوين لدينا عبارة عن أسواق حيث كل شيء يتم بالمقابل.
فعلى العكس مما هو عليه الأمر في العديد من بلدان المعمور فإن الوظيفة ليست هي التي تصنع المرء بل العكس، لنأخذ المفتشية العامة للجيش على سبيل المثال، التي لم تكن على مدى سنوات عديدة سوى صندوقا للبريد. غير أنه منذ أن تسلم مهامها الجنرال عبد العزيز بناني أخذت بعدا آخر جديدا، وذلك على الرغم من أن هناك قوانين حددت مهامها، لماذا؟ لأن عبد العزيز بناني يتوفر على شبكة تبادل مصالح، ولأن عددا كبيرا من الضباط الكبار لم يكن بمقدورهم أن يكونوا على رأس إدارة مختلف مكاتب القيادة العامة للقوات المسلحة بدون إذنه، وإذن الجنرال حسني بنسليمان.
وفي واقع الأمر فإن هذه البنية الإدارية التي توجد عليها القيادة المذكورة، وفق مكاتب مختلفة، تعتبر غير ذات جدوى، ولا تستجيب للمعايير الأمنية ولا لأية فعالية ميدانية. وهي بالمقابل تُمكن أتباع الجنرالين بنسليمان وبناني، الذين أخذوا بشكل نهائي مكان "الجيش البربري" خلال مستهل عقد السبعينيات من القرن الماضي، من التربع على تسيير الجيش، وجعل حقيقة الانقلاب العسكري حاضرة دائما بشكل من الأشكال، أكثر من أي وقت مضى.
آليات الفساد نشأت مع ميلاد القوات المسلحة لا يخفى على أحد الآن أن مؤسسة الجيش ظلت مطبوعة بالصراعات على المواقع من أجل التحكم في كل ما من شأنه تنمية المصالح، وغالبا ما كانت تطفو على السطح علامات ومؤشرات حرب مستترة على المواقع بغية التحكم في مصادر يسهل عبرها مراكمة الثروة وتنمية المصالح الشخصية الضيقة، المادية والمعنوية والعينية، وقد وصل هذا الصراع أحيانا إلى حد اعتماد التصفية الجسدية، وفي هذا الصدد يمكن التذكير بحالة نجاة الكولونيل عبد العزيز بناني (آنذاك) في نهاية عهد أحمد الدليمي، من حادثة هيليكوبتر ذهب ضحيتها أحد الضباط وجرح على إثرها عدد من الجنود، وقد أشار أكثر من مصدر أن المستهدف هو "الكولونيل بناني".
وإذا كانت آليات الفساد قد نشأت مع ميلاد القوات المسلحة والتداعيات والملابسات التي رافقت إحداثها، فإن الفساد استشرى وتكرس في أحضانها بعد المحاولتين الانقلابيتين العسكريتين الفاشلتين، كما أن البعض يعزو استشراء هذا الفساد في أحضانها، لانغلاقها وعدم انفتاحها على باقي مكونات المجتمع، وبالتالي احتمائها بهالة من "القداسة" المفبركة والخوف والطابوهات. وقد تعمق الفساد في أحضان الجيش وترسخ مع ظهور فئة الجنرالات – رجال الأعمال، وكان الجنرال أحمد الدليمي، أول نموذج لهذه الفصيلة من الضباط الكبار الذين تألقوا وتسلقوا سُلَّم الثروة، لاسيما منذ نهاية السبعينات وعلى امتداد الثمانينات والتسعينات، وشكلت قضية الصحراء فرصة للنهب ومراكمة الثروات على حساب البلاد والعباد.
ومن العلامات الأولى لاستشراء الفساد في المؤسسة العسكرية، أن هناك مجموعة من الضباط الكبار انتقلوا من مستوى معيشي معين إلى مستوى بذخ مهول لا مقياس له ولا معيار مقارنة مع الحالة الاقتصادية للمغرب وطبيعة ثرواته ومستوى تقدمه في هذا المجال، علما أن ثروات هؤلاء الضباط السامين، بالمغرب وخارجه، غالبا ما تكون باسم زوجاتهم وأقاربهم أو شركاء الواجهة لإبعاد الشبهات.
وعموما، لا يمكن فصل المؤسسة العسكرية عن المجتمع، فإذا كان الفساد مستشريا فيه، وفي أغلب مؤسساته المدنية وفي الركح السياسي، فلا مناص من أن يعم كل المجالات، وهو ما سبق أن أثبته كثير من المحللين بالحجة والبرهان، مما يؤدي إلى عدم الاستغراب أن يكون جيشنا في منأى عن الفساد، فهذا أمر قائم ولا جدال فيه، وإنما الجدال حول متى ستحضر الرغبة الأكيدة للتصدي لهذا الفساد؟
ومما سهل ترسيخ الفساد في المؤسسة العسكرية، التملص من المراقبة والمساءلة بحجة الدواعي الأمنية، واحتلال رؤوس الفساد لمواقعهم، خلافا للوزراء والسياسيين والمنتخبين، طوال مشوارهم الوظيفي، الشيء الذي مكنهم من إرساء قواعد لوبي اقتصادي صلب وقوي، ساهم بدوره في ترسيخ آليات الفساد ودواليبه والحرص على استدامتها.
ولم يكن من الصعب مواجهة أية رغبة في التصدي للفساد، اعتبارا للإقرار بسهولة استفادة مجموعة من الضباط السامين من كل أنواع الامتيازات البعيدة جدا عن نطاق مهامهم ومشوارهم العسكري، من قبيل منحهم الضيعات والأراضي المسترجعة والسماح لهم، بجرة قلم أو بمجرد مكالمة هاتفية، من إنجاز تجزئات، وكذا رخص النقل والصيد في أعالي البحار ومقالع الرمال وتسهيل وضع اليد على بعض الشركات.
هكذا استشرى الفساد... كانت انطلاقة استشراء الفساد بالمؤسسة العسكرية بشكل غير مسبوق منذ سنة 1973، عندما تلقى الضباط الكبار الضوء الأخضر من طرف قائدها الأعلى آنذاك، سعيا وراء الاهتمام بالبحث عن المال ومراكمة الثروات وتنمية المصالح الذاتية.
وقد ساهمت جملة من الأحداث والكتابات في إماطة اللثام عن فساد المؤسسة العسكرية وما يجري ويدور في أقبيتها من صراعات حول المواقع المدرة للثروات، كما تأكد الآن، بما فيه الكفاية وزيادة، أن مظاهر الفساد في صفوف الجيش، تعددت وتنوعت بدءا من التلاعب بالتموين وبالميزانيات واستغلال النفوذ والمواقع والتستر على شبكات التهريب والاتجار بجوع الجنود.
فقد لجأت كمشة من كبار الضباط، كان الملك الراحل الحسن الثاني قد منحهم "البطاقة البيضاء" بالصحراء، إلى استغلال مواقعهم ونفوذهم لتحقيق مكاسب مادية، تحولوا معها في "رمشة عين" إلى رجال أعمال أو شركاء في مشاريع وتجارات ضخمة، حيث ركزوا جل اهتمامهم على البحث عن طرق وأساليب تنمية ثرواتهم. كما دأب هؤلاء على الاستفادة من قروض كبيرة بدون ضمانات وبدون فائدة أحيانا، بل هناك منهم من لم يرجع المستحقات التي كانت عليه (القرض العقاري والسياحي والبنك الوطني للإنماء الاقتصادي عرف حالات من هذا القبيل)، كما لجأ بعضهم إلى الارتماء على الملك العمومي وأملاك الدولة والغير، وقد تم لهم تسهيل احتلالها أو السطو عليها.
ساهمت حرب الصحراء في اتساع فضاءات الفساد وارتفاع حدته، ومع اقتراب نهاية عهد الحسن الثاني بدأت بعض الأصوات الجريئة تكسر جدار الصمت الذي لف المؤسسة البكماء (الجيش) لفضح بعض وجوه الفساد واستبداد بعض الضباط الكبار في تنمية ثرواتهم وخدمة مصالحهم الخاصة، وإذا كانت هذه الأصوات الشجاعة قد أدت ضريبة باهظة، فإنها دشنت طريق تحطيم طابو "قداسة" المؤسسة العسكرية، علما أنه إلى حد الآن مازلنا لم نعاين بعد مساءلة فعلية لرؤوس الفساد بالجيش رغم فضح أمر بعضهم أكثر من مرة، ورغم أنه قد أتيحت أكثر من فرصة للقيام بذلك، ولكن، يبدو أن هناك رغبة أكيدة في عدم الوصول إلى الرؤوس المتحكمة في استشراء هذا الفساد واستمراره.
فجل الكتابات التي تناولت المؤسسة العسكرية، بدون استثناء، أسهبت في نقل تفاصيل مملة لإشكالية الرشوة المرتبطة ببعض الجنرالات والضباط السامين، والغريب في الأمر أن اسم الجنرال عبد العزيز بناني ظل دائم الحضور في مختلف هذه الكتابات، علما أنه من الجيل الثالث لجنرالات المغرب، والذي ارتبط وتألق أفراده بتسلق المراتب، خصوصا منذ نهاية حرب الصحراء.
وكادت كل تلك الكتابات أن تتفق على أن الرشوة استقرت وتقعدت في صفوف الجيش، لدرجة أنها أضحت تصرفا معمولا به، فالترقيات بمقابل، قاعدة قائمة معلومة لدى الجميع، وكل منصب ورتبة وموقع له ثمنه، وحاليا القليلون جدا هم الذين يمكنهم أن يحلموا بمنصب بالدرك الملكي أو الأمن أو ولوج مؤسسة تكوين عسكرية أو أمنية دون مقابل أو "ركيزة"، وحسب أحد المشاركين في إحدى المباريات الخاصة بالدرك الملكي، يمكن ضمان النجاح مقابل دفع ما بين 5 و10 ألاف درهم حسب الظروف ودرجة القرب من الوساطة.
ولعل أول فضيحة ظهرت في مجال الاتجار بالترقيات في التسعينات، نازلة الكومندار إدريس الدردابي الذي اشتهر بين الأطباء العسكريين في عهد قيام الجنرال إدريس عرشان على شؤون الطب العسكري والمدني. كان الكومندار الدردابي طبيبا في صفوف الجيش، قد طال انتظاره، ولم يستفد من الترقية رغم استيفائه كل الشروط لاستحقاقها، وعندما استفسر الكولونيل ماجور الزموري (المسؤول آنذاك عن ملفات الانتقال والترقيات....) أفهمه أن عليه أداء ما قيمته 50 ألف درهم، وفي حالة عدم توفره على المبلغ أخبره أن هناك إمكانية أدائه بالتقسيط على دفعات. بعد ذلك أعد الدردابي تقريرا في الموضوع إلى الكولونيل بلبشير آنذاك، إلا أنه لم يتلق أي جواب كأن شيئا لم يقع، ففضل المشتكي مغادرة الجيش والالتحاق بالقطاع الخاص.
وارتباطا بسكوت الكولونيل بلبشير، وتعليقا على استشراء الرشوة والفساد، يقول أحد الضباط الذين شاركوا في تجريدة الجولان: "لا أفهم لماذا لم يخصص المحجوب الطوبجي في كتابه، ولو فقرة للجنرال عروب ومعاونيه الذين كان همهم الأول هو تهيئ شروط ضمان "الكميلة"، إذ وضع رجاله في مختلف المناصب التي تجلب الأموال، وكل من كانت تسول له نفسه عدم الخضوع لقواعد اللعبة، كان يجد أمامه رجال بلبشير بالمرصاد، لحسم الأمر، وبذلك تقعدت شبكة النهب منذ زمان طويل، وظلت آلياته تتطور لإبقاء الوضع على ما هو عليه ما دام الق