لم تعد تفاصيل الأحداث اليومية في ليبيا ذات قدر كبير من الأهمية ، لأنها تجاوزت المرحلة التي يجب التركيز فيها على التفاصيل اليومية لمجريات الأمور بسقوط الدولة وتلاشي كيانها المركزي .
بعد سقوط الجماهيرية أصبح من الصعب على المراقبين التكهن بمستقبل ليبيا ، فهي بالتأكيد لن تكون نموذجا تونسيا أو مصريا ، لأنها أخذت طابعها الخاص منذ بداية الأحداث.
بعد 4 شهور من سقوط ليبيا بدأت رؤية جديدة تلوح في الأفق ، وارهاصات صراع جديد قادم يبدو أنه من الصعب احتوائه ، ففي أفضل الأحوال فإن هذا البلد سيقع في صراعات داخلية بين مختلف مناطقه وستظل هذه الصراعات بين الأطراف المتفرقة لفترة وستأخذ شكل أزمات عابرة ، ما لم تتخذ هذه الصراعات شكل تحالفات ، فإنها بذلك ستصبح حرب نفوذ جديدة لكن هذه المرة دون تدخل حلف الناتو الذي حسم الصراع في المرة الأولى.
ما يجري حاليا على أرض ليبيا هو تحول مختلف المناطق الليبية التي تختلف في ولائها وانتمائها إلى كانتونات مغلقة قريبة إلى حد كبير من مفهوم "الدويلات" داخل الدولة الكبيرة ، فمصراتة أصبحت دولة منفصلة لا يدخلها الليبيون إلا بتأشيرة مرور! ، كما اتبعت منطقة تاجوراء في طرابلس نفس النهج وقامت بإنشاء بوابات حدودية عملاقة تغلق مناطقها ، واتجهت منطقة بني وليد معقل قبيلة ورفلة إلى نفس النهج ، وفي نفس السياق أيضا بدأت قبائل سرت بتجميع السلاح وشرائه - بضعف أثمانه - لأهداف لم تتضح بعد ، ولكن المعلومات الواردة تقول أن سرت عما قريب ستعلن منطقة أمنية معزولة عن باقي مناطق ليبيا ، كما أن منطقة الزنتان أغلقت حدود مناطقها وأراضيها لتحذو حذو باقي المناطق في ليبيا ، أما بالنسبة للعاصامة الليبية طرابلس ، فبحسب ما ذكر لي دبلوماسي مصري يعمل هناك فقد قال لي بالحرف الواحد : " كل شارع في طرابلس يحكم نفسه وله قيادة" ، أي أن العاصمة الليبية الشاسعة المساحة لا قيادة مركزية لها ، بل مجالس عسكرية لكل منطقة أو شارع ، وقبائل الأمازيغ تلتزم الصمت وتغلق مناطقها ولا يعلم أحد حتى الآن ما هي نواياهم.
ووسط هذ الزخم الإنعزالي من مختلف مناطق ليبيا فإن مناطق الشرق الليبي تعتبر من أكثر مناطق ليبيا هدوءا وتنظيما وبعدا عن هذه التجاذبات ، إذ من المتوقع إن اشتعلت الأوضاع مجددا من وسط البلاد إلى غربها أن تعلن المناطق الشرقية في ليبيا انفصالها بدولة مستقلة تحدها امساعد شرقا وراس لانوف غربا ، وبهذا تنفصل قبائل الشرق بأراضيها إضافة إلى آبار النفط - مصدر الدخل الوحيد في ليبيا -
أوساط ليبية من الداخل تتحدث عن قرب اشتعال معركة "انتقامية" سيكون في صدارتها سرت وبني وليد في تحالف مشترك ، والمستهدف الأول والأبرز من انتقام سرت وبني وليد هي منطقة مصراتة والتي تعتبر على خلاف تاريخي مع سرت وورفلة أحيته الحرب الأخيرة إثر دخول قبائل مصراتة لمدينتي سرت وبني وليد وتدميرهما والتنكيل بسكانها ونهب الممتلكات ، وهو ما تعتبره هذه القبائل إهانة لا تغتفر لتاريخها العريق.
الوضع الليبي يتجه لمزيد من التأزيم والإحتقان ، خاصة مع عجز قادة ليبيا الجدد عن بسط سيطرة الدولة على كافة المناطق الليبية وخلق مركزية جديدة متفق عليها للقيادة .
المؤلم في كل هذا ما ذكره لي أحد الأصدقاء ، بأن حقول النفط الليبية تحت سيطرة شركات أجنبية وتخضع لحماية مباشرة من حلف الناتو ، وأي من أطراف الصراع لو فكر بالإقتراب من هذه الحقول فإنه سيتم قصفه وردعه على الفور .
هنيئا لليبيين ما جلبوه لأنفسهم.