�§�|[ـ رأس الحكمة.. مخافة الله ـ]|�§�
رأس الحكمة.. مخافة الله
قال رسول الله (ص): "ما أهدى المسلم لأخيه هدية أفضل من كلمة حكمة تزيده هدى وترده عن ردى".
أريد بمقالي هذا أن أُزيل - بفضل الله - بعض الشبهات عن بعض الشبيبة المثقّفة علّهم يرجعون إلى تعاليم الدين الإسلامي فيعملون بموجبها حرفياً ولا يكتفون بإسم الإسلام، فإنّ "الإسم" لا يغني عن الواقع شيئاً.
عندما كنت في الجامعة، اعترض أحد طلاب فرع الفلسفة على هذا الحديث: "رأس الحكمة مخافة الله"، فقال: كان الأولى أن يقال: رأس الحكمة محبّة الله، ولم يرده أحد. وقد فاته أنّ الحكمة ومعرفة أسرار الكون لا تنجلي إلا في قلوب قد طهرت وتزكت بترك المعاصي واجتناب المحرمات وبعبادات وأعمال صالحات. ولا تترك المعاصي ولا تجتنب المحرمات إلا بخوف الله تبارك وتعالى. لا تترك المعاصي إلا بوازع نفسي وهو خشية الله. فالنفس الملوّثة بالذنوب والآثام، النفس المدلهمة بظلمات المعاصي والأجرام، لا ترى إلى الحكمة سبيلاً ولا تفتح لها أبواب أسرار الكون، لقوله تعالى: (ومن أظلم ممّن ذكر بآيات ربّه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنّا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً) (الكهف/ 57).
فترون أنّ مَن ذكر بآيات ربّه بعد إرسال الرُّسُل سلام الله عليهم أجمعين، وأعرض عنها ولم يؤمن لما اقترفت يداه من الذنوب، تسدُّ عليه أبواب الهداية وتغلق عليه أبواب الرحمة فيكون بينه وبين الحق حجاب حاجز يمنعه عن رؤية الحق فلا يرى الحق وينسى نفسه، وقد قال تعالى: (نسوا الله فأنساهم أنفسهم) (الحشر/ 19)، فلا يُفكِّر في مصيرها وتهذيبها وتوجيهها إلى الغاية التي خلقت لأجلها، فيكون من الأخسرين أعمالاً، وقال تعالى: (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً * الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً) (الكهف/ 103-104).
فالله تبارك وتعالى يسد أبواب الحكمة على مَن أتمّ عليه الحجة ولم ينتبه وتوغل في الذنوب وتدنس بالموبقات، بقوله: (إنّا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه)، أي إنّا جعلنا على قلوب الذين عصوا الله ولم يتذكّروا بما ذكّرهم به أغطية وأستاراً تمنعهم عن أن يفقهوا الدين ويقفوا على أسرار الكون وحكمة الوجود، فيعترضون ويتذمّرون وينكرون ويتفلسفون. وليس هذا الإعتراض والتذمُّر والإنكار والتفلسف إلا رشحات نفس تلوّثت بالذنوب ومظاهر قلب عمى عن رؤية الحق والواقع، فإنّه تعالى يقول: (فإنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) (الحج/ 46)، وجاء في الحديث: "إن أعمى العمى عمى القلب"، ونستجير بالله من ذلك.
فلا يمكن أن تنجلي الحكمة في النفس الإنسانية إلا إذا طهرت بالعبادة وترك المعاصي والتزكية والتجلية والتحلية. وهذه لا تحصل إلا بعد أن يخاف الإنسان ربّه ويخشاه فيؤاخذ نفسه على كل صغيرة وكبيرة، ويلومها ويؤنبها ويستغفر الله منها بأنواع الإستغفار.
إنّ الله تعالى يقسم بالنفس اللوّامة تقديراً لها، بقوله تعالى: (لا أقسم بيوم القيامة * ولا أقسم بالنفس اللوّامة) (القيامة/ 1-2). فإذا لام الإنسان نفسه وكفر عن سيِّئاته، أخذت نفسه تتزكّى وتتطهّر شيئاً فشيئاً بنتيجة خوفه من الله تبارك وتعالى، فتنتفح عليه إذ ذاك أبواب الحكمة وتطمئن نفسه وتحلُّ أمامه كل ما يختلج في نفسه من اعتراضات وتنقشع عنه الشكوك والريب والأوهام.
إنّ الصادق (ع) يقول: "ليس العلم في السماء فتستنزلوه أو في الأرض فتستخرجوه، وإنّما هو كامن في جبلتكم، تخلّقوا بأخلاق الروحانيين يكشف لكم".
ومَن كان في نفسه شك فيما أقول فليعمد إلى التجربة. فإنّ المريض بأمراض بدنيّة يطيع الطبيب فيما يقول ويعمل حسب وصفة الطبيب فيبرأ من مرضه. فمن كان يرتاب في ما أقول، فليدرس الدين الإسلامي ليقف على المناهي والمحرّمات والمباحات، ليقف على الآداب الإسلامية، ليطلع على العبادات التي بها تزكو النفس، ثمّ يعمل مستعيناً بالله حسب علمه ليرى بعد زمن قليل كيف تتجلّى في نفسه الحكمة، وكيف يتقرّب يوماً بعد يوم إلى الله تعالى، وكيف يدخل في عالم جديد، عالم فرح واطمئنان، عالم كلّه نور وصفاء.
إنّ رسول الله (ص) قرأ على ثلة من الشبان سورة الزُّمر التي فيها: (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين * قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين * وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً حتى اذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوا خالدين * وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين) (الزُّمر/ 71-74)، فبكوا خوفاً من الله تبارك وتعالى، فبشّرهم رسول الله (ص) بالجنّة.
يقول الله تبارك وتعالى في قرآنه الكريم: (إنّما يخشى الله من عباده العلماء) (فاطر/ 28)، فلماذا نرى علماء لا يخشون الله تبارك وتعالى ويرتكبون أنواع المعاصي؟ نرى علماء في الرياضيات العالية، في الكيمياء العالية، في الفلك العالي، في الفيزياء العالية، في الفلسفة بأنواعها، في التأريخ والجغرافية وفي بقية العلوم، يعصون الله تبارك وتعالى ولا يبالون فرحين، كأن ليس وراءهم حساب. فليس إذن مراد الله من كلمة (العلماء) هذا العلم المادي الذي يحصل بعملية تفكير تشبه عمل النجار الذي اعتادت يداه فنّ النجارة بنتيجة الممارسة والتمرين، وإنّما مراد الله من هذا العلم: هو العلم الذي يحصل نتيجة خشية الله ونتيجة خوف الله تبارك وتعالى وأعمال تترتب على هذه الخشية وذاك الخوف. وهذا العلم هو الحكمة التي مدحها الله تعالى في قرآنه الكريم بقوله: (يؤتى الحكمة مَن يشاء ومَن يؤت الحكمة فقد أوتى خيراً كثيراً وما يذّكّر إلا أولوا الألباب) (البقرة/ 269).
وقد عرَّف الله الحكمة بقوله: (ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله) (لقمان/ 12)، فأعلى مراتب الحكمة شكر المنعم وهو بابها. وهذا الشكر يتجلّى في جميع العبادات والأعمال الصالحة. فكلّها مظهر من مظاهر الشكر، ولا يحصل ذلك إلا بعد خوف الباري جلّ جلاله، ومن ثمّ تتجلّى الحكمة وتطمئن النفس، إذن: "رأس الحكمة مخافة الله".
يقول الله تبارك وتعالى: (ومَن يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقه فأولئك هم الفائزون) (النور/ 53)، وفي موضع آخر: (فذكر إن نفعت الذكرى * سيذكَر مَن يخشى) (الأعلى/ 9-10)، فعلق التنبه والهداية والإستبصار على الخوف والخشية بقوله: (سيذكّر مَن يخشى)، وهل الحكمة غير الهداية والإستبصار؟
ويمدح الله في مكان آخر الذين يخشونه ويخافونه بقوله: (والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربّهم ويخافون سوء الحساب) (الرَّعد/ 21)، ثمّ يُبشِّرهم تبارك وتعالى بقوله: (أولئك لهم عقبى الدار * جنّات عدن يدخلونها ومَن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرِّياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) (الرَّعد/ 22-24).
وعن إسحاق بن عمار، قال: قال أبو عبدالله (ع): "يا إسحاق، خف الله كأنّك تراه، وإن كنت لا تراه فإنّه يراك، وإن كنت ترى أنّه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم أنّه يراك ثمّ برزت له بالمعصية فقد جعلته من أهون الناظرين إليك".
وعنه (ع)، إنّ النبي (ص) قال: "يا أيُّها الناس، إنّ لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإنّ لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم. ألا إنّ المؤمن يعمل بين مخافتين: بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه. فليأخذ العبدُ المؤمن من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، وفي الشبيبة قبل الكبر، وفي الحياة قبل الممات. فوالذي نفس محمّد بيده، ما بعد الدنيا من مستعتب وما بعدها من دار إلا الجنّة أو النار".
فَمَن أراد أن تفتح عليه أبواب الحكمة وأن يتفهّم الدين تفهُّماً يؤدي به إلى تكميل نفسه ليكون بشراً على شكل ملك أو ملكاً بصورة إنسان، فليس عليه إلا أن يخاف الله جلّ جلاله بترك المحرمات جميعاً وأن يكون مسلماً حقّاً، عاملاً بكل ما يأمر به الدين المبين، دين العقل والتفكير الصحيح.
المصدر: كتاب التكامل في الإسلام