][[ ‡§‡ ]][ هل كل كافر يدخل النار؟][[ ‡ §‡ ]][
هل كل كافر يدخل النار؟
إننا عندما نحكم بكفر منكر التوحيد أو النبوة فهذا لا يعني بوجهٍ الحُكمَ عليه بأنه من أصحاب الجحيم، كما هو الشائع في واقعنا حيث يبادر الكثيرون إلى توزيع الناس على الجنة والنار، فهذا من أصحاب الجنة وذاك من أصحاب الجحيم، ويخيّل إليك وأنت تسمع للبعض وهو يصنّف الناس ويوزعهم على الجنة والنار، أنه يملك خزائن رحمة الله أو كأنما جعله الله قسيم الجنة والنار ومنحه حق توزيع صكوك الغفران أو هبة أرض الجنة للأتباع والأنصار فحسب، وعندما تستمع إلى البعض الآخر وهو يحدِّد ويعيِّن أهل الجنة فتراه يخرج منهم أولاً أهل الأديان الأخرى وأتباع سائر المذاهب ممن لا يلتقون معه في المذهب، ثم إن أهل مذهبه أكثرهم فاسقون ومنحرفون وهؤلاء يستحقون العذاب، فلا يبقى للجنة إلا النزر القليل وهم هذا الشخص ومَن يوافقه الرأي.
إنك عندما تستمع لهذا الكلام لا تملك إلا أن تتساءل: لماذا يضيّق هؤلاء رحمة الله الواسعة التي تشرئب لها عنق إبليس؟ ولِمَن خلق الله جنةً عرضها كعرض السماوات والأرض وملأها بالطيبات والملذات بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر؟!
- أشخاص مدانون وآخرون معذورون:
وإذا أردنا وضع الأمور في نصابها لقلنا: إن كل شخص وصله نداء الإسلام وقامت الحجة عليه لكنه رفضه عناداً وعصبية، فهو مدان بحكم العقل وشريعة العقلاء، وكذا لو لم يكترث ولم يبالِ بنداء الدين الجديد رغم وصوله إليه واحتمال صدقيته، فهذا أيضاً غير معذور – بحكم العقل – وتصح مؤاخذته، لأنه رغم تمكنه من المعرفة قصّر في البحث والنظر، وهو ما يسمى بالجاهل المقصِّر.
وفي المقابل، فإن الشخص الذي لم يصله صوت الإسلام ولم تبلغه الدعوة ولا سمع بمحمد ورسالته – كالذي يعيش في بعض مجاهل الأرض أو الأماكن النائية – لاريب في عدم استحقاقه للعقاب والمؤاخذة، لأن من واضحات حكم العقل قبح إدانة الإنسان إلا بعد قيام الحجة عليه، ولا تقوم الحجة إلا بوصول الدعوة. وفي هذا السياق، جاء قوله تعالى: (... وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا) (الإسراء/ 15)، فهذه الآية ترشد إلى حكم العقل المذكور، ومفاد جملة (وما كنا..): أنه ليس من شأنه تعالى أن يعذّب إلّا بعد بعث الرسول بما يمثل من حجة على العباد.
وهكذا لاريب أيضاً أن من وصلته الحجة وسمع بالرسول ودعوته، لكنه كان فاقداً للقدرة على التمييز بين الحق والباطل لقصوره وعدم استعداده لتفهم دليل الحق فهو معذور كما في الطفل والمجنون، وهذا ما اصطلح عليه بالمستضعف.
بيد أن الكلام في صنفين من الناس غير من ذكر وهما:
1- مَن بلغه صوت الإسلام ولديه من الاستعداد الكافي لتفهم الحق ولكنه لم يكلف نفسه عناء البحث والتحقيق، ليس عناداً وتمرداً وإنّما لاعتقاده بصوابية دينه، مما جعله لا يرى جدوى من دراسة الدين الجديد، وهذا يسمى بالجاهل القاصر.
2- مَن قرأ الإسلام بإخلاص، وتأمل في أدلة النبوة وبراهينها بعين الإنصاف، مع توطين النفس على الإنقياد للحق والتسليم به دون الوقوع تحت ضغط المؤثرات المسبقة والنوايا المبطنة، ولكنه رغم ذلك لم يوفق للاقتناع بنبوة محمد ورسالته، إما لوجود شبهة لديه لم يلتفت إلى بطلانها وكونها في مقابل بديهة، وإما لغير ذلك من أسباب عدم رؤية الحق.
- معذورية القاطع:
أمّا الصنف الأوّل: وهو القاطع بصحة معتقده، فليس لأحدٍ أن يجزم بأنه من أهل النار ويستحق العقاب وغضب الجبار، وإننا نقول للذين ينشغلون بتوزيع الناس على الجنة والنار: لا تضيّقوا رحمة الله ولا تنفروا الناس من دين الله، فمفاتيح الجنة والنار ليست بأيديكم، وليس من حق أحد أن يحكم بأن مطلق الكافر هو من أهل النار، فضلاً عن غير الكافر، لأن الكافر قد يكون معذوراً في كفره، كما لو كان جاهلاً قاصراً لا مقصراً، فإن الله سبحانه وتعالى أعدل من أن يعاقب الإنسان إلا بعد إقامة الحجة عليه (... وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا) (الإسراء/ 15)، والرسول كناية عن الحجة والبيان.
ومعذورية الجاهل القاصر أمر تقتضيه أصول العدلية، بل هو من بديهيات اعتقاداتهم، وقد برهن علماؤنا في أبحاث الأصول على كون القطع معذراً لصاحبه كما هو منجز للتكليف عليه، وأفادوا بأن منجزية القطع ومعذريته هي من اللوازم الذاتية للقطع ولا يمكن سلبها عنه كما هو الرأي المشهور، ومعذرية القطع هذه شاملة للأصول والفروع، لأنها من الأحكام العقلية وهي غير قابلة للتخصيص. نعم هناك قيد واحد وهو يقتضي تخصص القاعدة وضيقها من الأساس لا تخصيصها، وهو أن يكون القاطع قاصراً لا مقصراً، فإن القاطع المقصّر وإن كان قطعه حجة عليه، لكنه يستحق المؤاخذة بسبب تقصيره.
- غالب الكفّار معذورون:
وربما يقولن قائل: بأن الجاهل القاصر قليل ونادر الوجود، وأكثر الكفار أو الذين لا يوالون ولا يتبعون الحق إما عالمون جاحدون أو جاهلون مقصّرون يمكنهم الوصول إلى الحقيقة بسهولة، وبعبارة منطقية: لو تمت الكبرى أعني معذورية الجاهل القاصر، فإنها لا تجدي نفعاً لأن مصاديق الصغرى نادرة الوجود.
ولكننا نقول: بأن الأمر ليس كذلك، فإن أكثر الناس ممن لا يؤمنون بالحقائق الدينية جاهلون قاصرون لا مقصرون إلا في معرفة الله سبحانه، فإن الجاهل بوجوده تعالى أو وحدانيته مقصر لا قاصر – غالباً – لأن معرفته تعالى وكذا توحيده – على نحو الإجمال دون تفاصيل التوحيد – من الأمور الفطرية، كما أن التأمل في السماوات والأرض وما فيهما من أسرار ونظم تهدي إلى الإيمان به تعالى والإقرار بوحدانيته، أما فيما عدا ذلك من العقائد كالنبوة والإمامة والمعاد فإن وجود الجاهل القاصر بشأنها كثير، وهذا ما أشار له الإمام الخميني إذ يقول في شأن الكفار: "إن أكثرهم – إلا ما قلّ وندر – جهال قاصرون له مقصرون، أمّا عوامهم فظاهر لعدم انقداح خلاف ما هم عليه من المذاهب في أذهانهم، بل هل قاطعون بصحة مذهبهم وبطلان ساير المذاهب، نظير عوام المسلمين، فكما أنّ عوامنا عالمون بصحة مذهبهم وبطلان ساير المذاهب من غير انقداح خلافٍ في أذهانهم لأجل التلقين والنشوء في محيط الإسلام، كذلك عوامهم من غير فرقٍ بينهما من هذه الجهة، والقاطع معذور في متابعة قطعه ولا يكون عاصياً أو آثماً ولا تصح عقوبته في متابعته (أي متابعته لقطعه)، وأمّا غير عوامهم فالغالب فيهم أنهم بواسطة التلقينات من أوّل الطفولية، والنشوء في محيط الكفر صاروا جازمين ومعتقدين بمذاهبهم الباطلة بحيث كل ما ورد على خلافها ردوها بعقولهم المجبولة على خلاف الحق من بدء نشوئهم، فالعالم اليهودي والنصراني كالعالم المسلم لا يرى حجة الغير صحيحة وصار بطلانها كالضروري له لكون صحة مذهبه ضرورية لديه لا يحتمل خلافه، نعم منهم مَن يكون مقصراً لو احتمل خلاف مذهبه... وبالجملة: "إن الكفار كجهال المسلمين منهم قاصر وهم الغالب، ومنهم مقصِّر... والكفار معاقبون على الأصول والفروع لكن مع قيام الحجة عليهم لا مطلقاً، فكما أن كون المسلمين معاقبين على الفروع ليس معناه أنهم معاقبون عليها سواء كانوا قاصرين أو مقصرين، كذلك الكفار طابق النعل بالنعل بحكم العقل وأصول العدلية".
وقد سجّل بعض تلامذة السيد الخميني عليه اعتراضاً صغروياً وهو أن "كون علماء اليهود والنصارى قاصرين غير آثمين ولا معاقبين لا يمكن المساعدة عليه، إذ كيف يمكن القول بكون علمائهم العائشين في البلاد الإسلامية ومجاورتها ولا سيما في أعصارنا قاصرين غير مطلعين مع بسط الإسلام وانتشار خبر ظهور نبينا بكتاب جديد وشريعة جديدة؟! بل العوام منهم أيضاً إلا ما قلّ وندر قد سمعوا خبر الإسلام والدين الجديد بعد المسيح (ع)، والاحتمال في الأمور المهمة منجزٌ عقلاً وفطرة فكان عليهم البحث والفحص، وبالجملة: فأكثرهم مقصرون إلا مَن لم يقرع سمعه إسم الإسلام والمسلمين".
ويلاحظ عليه: بأن مجرد سماع الشخص بخبر دين جديد لا يجعله جاهلاً مقصراً ولا يحكم عقله بلزوم الفحص عن هذا الدين إلا إذا احتمل حقانيته ومع ذلك لم يفحص، أمّا لو كان معتقداً – ولو خطأً – بطلانه فيكون قاصراً وجاهلاً جهلاً مركباً، وغالب أهل الكتاب كذلك أي لا ينقدح في ذهنهم الاحتمال المذكور رغم سماعهم بالإسلام، تماماً كما لا ينقدح في أذهان عامة المسلمين الشيعة – مثلاً – احتمال حقانية المذاهب الأخرى، والعكس صحيح أيضاً، على الرغم من مجاورة أتباع هذه المذاهب بعضهم لبعض، وأمّا الذين يحتملون الاحتمال المذكور فهم قلة من العلماء والمطلعين على حجج الطرف الآخر.
وانطلاقاً مما تقدّم، فقد أفاد بعض الأعلام بأن معظم المسيحيين معذورون ومخلصون، يقول الشهيد المطهري: "... رغم أننا نعتقد بطروء التحريف عليها – يقصد المسيحية – لو تنظرون إلى المدن والقرى والرهبان ورجال الدين فيها، فهل أن كل راهب فاسد وإنسان سيِّئ؟! واللهِ إن بينهم نسبة السبعين إلى الثمانين في المائة منهم أشخاص أتقياء يملكون حساً إيمانياً وإخلاصاً، وكم علّموا الناس التقوى ونشروا الصلاح والإخلاص والطهارة باسم المسيح ومريم، ولا ذنب لهؤلاء الناس، وسوف يدخلون الجنّة، وأساقفتهم كذلك أيضاً. إذن لابدّ من التمييز بين رجال الدين الفاسدين وبين أكثرية المبشرين المخلصين من أتباع المسيح".
وهذا الكلام ليس بعيداً عن الصواب، بل ربما كان هو المقصود بقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة/ 62).
- الإجتهاد في الأصول.. بين قبول النتائج ورفضها:
ويبقى الصنف الثاني وهو المجتهد الذي لم يهتد لوجه الحق، لبعض الموانع التي لا تصنّف في خانة العناد أو العصبية أو التقصير، فهل يمكن أن يحكم بمعذوريته؟ أو أنه يعاقب ويحاسب تماماً كالمقصر أو الجاحد؟
يمكننا القول: إن هذا الشخص ورغم حرمانه من نور الهداية، لكنه معذور ولا يستحق العقاب، فهو بحكم القاصر، وذلك لقبح إدانة مَن لم تقم عليه الحجة أو مَن كان قاطعاًَ بصحة معتقده ولا يخطر في باله صحة الدين الجديد، شريطة أن لا يجحد ما لم يقتنع به، لأن عدم الاقتناع بشيء لا يبرر نفيه، كما أن عدم الوجدان لا يدخل على عدم الوجود، فلا مبرر منطقياً وعقلياً لمن لم يقتنع بنبوة محمد (ص) أن يجحدها وينفيها، وفي الحديث عن الإمام الصادق (ع): "لو أن الناس إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا".
وهذا الرأي وإن رمي بالشذوذ لكن ذلك لا يضر بعد اعتضاده بحكم العقل القاضي بقبح مؤاخذة مَن لم يألُ جهداً في الوصول إلى الحقيقة، وقد اتفق علماء الفريقين أن المجتهد في الفروع إذا بذل جهده في استنباط الحكم الشرعي ولكنه أخطئ فهو معذور ومأجور، وهذا الكلام يجري بعينه في المجتهد في الأصول لوحدة الملاك والمناط.
وقد اختار بعض أعلامنا هذا الرأي ومنهم الشيخ بهاء الدين العاملي (ت 1033هـ)، حيث يقول: "إن المكلف إذا بذل جهده في تحصيل الدليل فليس عليه شيء وإن كان مخطئاً في اعتقاده، ولا يخلد في النار وإن كان بخلاف أهل الحق"، وهكذا أيضاً تبناه الشيخ محمد جواد مغنية، ونُسب أيضاً إلى الجاحظ والعنبري تمسكاً "بقوله تعالى: (مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج/ 78)، ولأن تعذيبه مع بذله الجهد والطاقة من غير تقصير قبيح".
- الملاحظات على هذا الرأي:
وقد سجل على هذا القول عدة ملاحظات نقدية يمكن الإشارة إلى بعضها: الملاحظة الأولى: إنه "باطل قطعاً، لأن لازمه أن يكون علماء أهل الضلال ورؤساء الكفر غير مخلدين في النار إذا أوصلتهم شبههم وأفكارهم الفاسدة إلى ذلك من غير اتباع لأهل الحق".
وفي ردّه لهذه الملاحظة، افترض العالم الفقيه الشيخ يوسف البحراني أن القاعدة التي انطلق منها البهائي سليمة ولا ينبغي مناقشتها باعتبار أنه "من المعلوم أن مَن بذل وسعه في تحصيل الدليل ولم يهتد إليه ولم يقف عليه فهو معذور عقلاً ونقلاً" ولكنه – أي البحراني – ناقش في وجود مصداق لهذه القاعدة مفترضاً أن علماء أهل الضلال – على حد تعبيره – على قسمين:
1- مَن لم يبذل الجهد لمعرفة الحق وإنما اتبع مذهب الأسلاف عصبية وعناداً.
2- مَن بذل الجهد وظهر له الحق لكنه لم يتبعه حباً للمال والجاه.
ويمكننا التعليق على كلامه هذا بأن حصره لمن سمّاهم علماء الضلال في خصوص الصنفين المذكورين غير سديد، لأنه ما المانع من وجود صنف ثالث وهم الأشخاص الذين بذلوا الجهد الكافي لمعرفة الحق دون أن يوفّقوا لذلك؟ بل إن وجود هذا الصنف أمر مشاهد بالعيان، فما أكثر العلماء الذين يتبعون مذاهب أو شرائع أخرى غير الإسلام وهم مقتنعون بما هم عليه دون أن يكون لهم عداء مع الحقيقة!.
- هل البحث عن الحقيقة يقود إليها حتماً؟
وأمّا أن يقال: إن كل مَن بذل ويبذل الجهد في سبيل التعرف على الحقيقة بنية صادقة سيصل إلى غايته حتماً ولن يحجب عن الهداية، لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت/ 69).
فيلاحظ عليه: أنه لا دليل على ذلك، والآية لا تعطي المعنى المذكور، وإلا كان لازمه أن يهتدي المجتهد في الفروع كما في الأصول إلى الحقيقة ولا يخطئها إذا أخلص النية لله وبذل الجهد، مع أن الخطأ في مجال الفروع كثير، وهكذا في مجال الأصول، فإن الكثيرين ممن أخلصوا النيّة وبذلوا الجهد في البحث عن الحقيقة لم يوفقوا للاهتداء إليها، ألم يكن هدي الإمام علي (ع) ساطعاً كالشمس في رابعة النهار ومع ذلك عميت عنه أبصار الخوارج الذين لم يكونوا أو بعضهم على الأقل من ذوي النوايا السيئة بقدر ما كانوا مضللين كما تنبئ بذلك كلمة علي (ع) الخالدة في شأنهم: "لا تقتلوا الخوارج بعدي فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأصاب" (نهج البلاغة، ص108. وعلل الشرائع: 18).
على أن تفسير الآية بذلك موقوف على أن يكون المراد بقوله: (جاهدوا فينا...): جاهدوا للوصول إلى معرفتنا ومعرفة الحقائق الدينية، مع أن ثمة احتمال آخر في تفسيرها تبناه معظم المفسرين وحاصله: أن الذين جاهدوا النفس الأمارة أو الشيطان لوجه الله فسوف يهديهم الله ويزيدهم هدىً، فتكون الآية على غرار قوله تعالى (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى...) (محمد/ 17)، ولنعم ما سجّله المحقق القمي في هذا الصدد: "والقول بأن الله تعالى لم يبقِ أحداً من عباده إلا أوضح له سبل الإسلام، مكابرة صرفة".
والملاحظة الثانية: على الرأي المذكور هي أن الالتزام به يقتضي التسليم بمعذورية بعض مَن كفر برسالة النبي (ص) لعدم اقتناعه بها، وهذا لا يمكن قبوله إطلاقاً، قال العلامة الخاجوئي مشيراً إلى ذلك: "إن كفار عهد رسول الله (ص) الذين قتلوا وحكم بخلودهم في النار لم يكونوا معاندين، بل منهم مَن اعتقد الكفر بعد بذل الجهد، ومنهم مَن بقي في الشك بعد إفراغ الوسع".
وملاحظتنا عليه: أن المستفاد من القرآن الكريم والسيرة النبوية أن أولئك الكفار كانوا إما عالمين بصدق محمد (ص) ورغم ذلك كذّبوه عناداً وحقداً (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ) (النمل/ 14)، وإما شاكين في أمره ومع ذلك جحدوا نبوته وحاربوه بدل أن يبحثوا وينظروا في صدقها.
وأمّا أن بعضهم كان جازماً ومقتنعاً بالكفر والشرك وعبادة الأصنام ولم يحتمل صدق النبي (ص) رغم كثرة دلائله ومعاجزه، فهذا لا شاهد عليه بل الشاهد على خلافه، فهذه كتب السيرة تحدثنا عن جمع من كبار المشركين وعتاتهم الذين كانوا يتسللون في الليل للاستماع إلى آيات القرآن لما يجدون لها من حلاوة ووقع على النفوس.
وكيف لم يحتملوا صدق النبي (ص) في دعوى الرسالة وقد سمعوا من أهل الكتاب اقتراب ظهور نبي في العرب! وكان أهل الكتاب يستنصرون ويستفتحون به عليهم، كما جاء في قوله تعالى (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) (البقرة/ 89)؟!
وهكذا ينفي القرآن حالة الشك والريب عنهم في شأن الرسول ويقول إن شكهم لكان مبرراً لو لم تكن الحجة قوية والمعجزة واضحة (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) (العنكبوت/ 48)، فهؤلاء لم يكن عندهم شك في نبوّة محمد (ص) بل كانوا جاحدين، والجحود هو الإنكار مع العلم كما ذكر أهل اللغة، ولذا تضيف الآية اللاحقة: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ) (العنكبوت/ 49).
والملاحظة الثالثة: على الرأي المذكور أن القرآن الكريم مليء بالآيات التي تتوعد الكافرين أو المشركين أو الظالمين بالنار، وكذلك الأحاديث المعتبرة الواردة عن النبي (ص) وأهل بيته (ع)، ممّا هو شامل بإطلاقه للمجتهد المذكور وكذا شامل أيضاً للجاهل القاصر، وإخراجهما عن دائرة الآيات والروايات يلزم منه تخصيص الأكثر، وهو قبيح كما يقول علماء الأصول.
ويرده: أن تلك الآيات والروايات ناظرة إلى الجاحد للحق مع قيام الحجة عليه، أو إلى الجاهل المقصِّر وهو مَن عرف اختلاف الناس واحتمل بطلان ما هو عليه من الاعتقاد، ومع ذلك لم يبالِ ولم يبذل جهداً في البحث عن الحقيقة، ولا شمول لها لمن بذل جهده في معرفة الحقيقة ولم يُوفّق، ولا للجاهل القاصر الذي لم تصله الحجة ولم يحتمل بطلان معتقده بل كان جازماً بحقانيته، فهذان الصنفان خارجان تخصصاً، وعلى فرض عموم النصوص المذكورة وشمولها لهما، فلابدّ من تقييدها وإخراجهما من دائرتها لما دلّ – من العقل والنقل – على معذوريتهما وقبح مؤاخذاتهما، وهذا لا يلزم منه تخصيص الأكثر، لأن ما يبقى تحت تلك العمومات وهو الجاحد للحق أو المقصِّر ليس بالفرد النادر.
- العذر وصكوك البراءة:
وينبغي أن يعلم بأنّا عندما نحكم بقبح مؤاخذة القاصر أو المجتهد الذي لم يوصله اجتهاده إلى الحقيقة بالرغم من إخلاصه وعدم تقصيره، فإنما نحكم بمعذوريته في هذا المجال فحسب، وهذا لا يعني منحه صك براءة وغفران، فربما كان مستحقاً للمؤاخذة من جهة أخرى كارتكابه لما استقل العقل بقبحه كالقتل أو الخيانة أو الغدر أو غيرها من أشكال الظلم، فهذه مما يدرك الإنسان قبحها بعقله الفطري، وعليه فهو مؤاخذ على مخالفة حكم العقل لا الشرع، بل ربما جازت محاربته أو سجنه وتأديبه، كما لو خرج على النظام العام وشق عصا الأمة أو ارتكب الخيانة العظمى، وهكذا يتضح أن عدم مؤاخذته لا يعني نفي الكفر أو الضلال عنه، فإن الكفر المتمثل بإنكار الألوهية أو النبوّة لا علاقة له بالعلم أو الجهل.
- حكم منكر الولاية:
وما قلناه في الاختلاف العقدي على مستوى تعدد الدين يجري بعينه وبطريق أولى في الاختلاف الحاصل على مستوى المذاهب الإسلامية، فإن مَن لا يؤمن ببعض الحقائق الإيمانية كولاية وإمامة أهل البيت (ع) في اعتقاد الشيعة – مثلاً – كما لا يمكن الحكم بكفره لما تقدم، فلا يمكننا تصنيفه في عداد أهل النار لمجرد إنكار الولاية، إلا إذا كان عالماً جاحداً أو جاهلاً مقصراً دون ما لو كان قاصراً أو مجتهداً متأولاً، فإنه معذور بحكم العقل والنقل، وقد أسلفنا أن علياً (ع) كان يحكم بإسلام الخوارج رغم إنكارهم لإمامته وخروجهم عليه بعد وقعة التحكيم، وهذا ما يؤكده الحديث التالي عن إسماعيل الجعفي، قال: سألت أبا جعفر (ع) عن الدين الذي لا يسع العباد جهله؟ فقال: الدين واسع، ولكنّ الخوارج ضيقوا على أنفسهم من جهلهم، قلت: جعلت فداك فأحدثك بديني الذي أنا عليه؟ فقال: بلى، قلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، والإقرار بما جاء من عند الله وأتولاكم وأبرأ من عدوّكم ومَن ركب رقابكم وتأمّر عليكم وظلمكم حقكم، فقال: ما جهلتَ شيئاً، هو والله الذي نحن عليه، قلت: فهل سلم أحد لا يعرف هذا الأمر؟ فقال: لا إلا المستضعفين، قلت: مَن هم؟ قال: نساؤكم وأولادكم، ثم قال: أرأيت أم أيمن؟ فإني أشهد أنها من أهل الجنة وما كانت تعرف ما أنتم عليه".
وقوله (ع): "الدين واسع" يراد به أنّه "لا يتحقق الخروج من دين الإسلام بقليل من العقائد والأعمال كما هو مذهب الخوارج، حيث حكموا بكفر مرتكب المعاصي وخاضوا في المسائل الدقيقة فجعلوها من أجزاء الإيمان".
واستثناء المستضعفين في كلام الإمام الباقر (ع) ناظر إلى قوله تعالى: (...فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا) (النساء/ 97-99).
وربما يقولنّ قائل: بأنّ دائرة المستضعف – كما يستفاد من الآية والروايات – أضيق مما ذكر بكثير، فهو لا يشمل إلا ذوي القدرات العقلية المتواضعة من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً كما جاء في الآية المتقدمة، وفي الحديث الصحيح عن الإمام الباقر (ع)، قال: المستضعفون "الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً قال: لا يستطيعون حيلة إلى الإيمان ولا يكفرون، الصبيان وأشباه عقول الصبيان من الرجال والنساء".
وأما مَن كان ذا قدرة على التمييز ولديه معرفة باختلاف الأديان وتعددها فلا يكون مستضعفاً ولا يتناوله حكمه، وقد ورد في الحديث الصحيح عن الإمام الصادق (ع): "مَن عرف اختلاف الناس فليس بمستضعف".
ولنا أن نعلق على ذلك: بأن هذه الروايات ناظرة إلى الآية الشريفة ولو سلمنا أن هذه الروايات تفسيرية وليست مصداقية، لكن يبقى: أن الآية كالروايات لا مفهوم لها يدل على نفي العفو عن غير المستضعف، وحيث أن الدليل قائم على عدم مؤاخذة الجاهل القاصر فيكون مشمولاً لحكم الآية وإن لم يكن داخلاً في موضوعها ومنطوقها.
- الجنة والنار بيد الله:
وهكذا نخلص إلى النتيجة التالية: أنّه ليس كل كافر يعذّب بالنار، كما أنه ليس كل مسلم يدخل الجنّة ويتنعّم بها، وينبغي ترك أمر الجنّة والنار لله سبحانه وليس لنا أن نحتّم على الله بشيء حتى لو كان ظاهر المرء حسناً بالنسبة لنا، مع ذلك فلا مبرّر للقطع بأنه من أهل الجنّة، لأن الله أعلم به منّا وهو المطّلع على السرائر وما يكون قد خفي عنّا، ففي الرواية أنّ الرسول (ص) خرج في جنازة الصحابي سعد بن معاذ، فقالت أم سعد: هنيئاً لك يا سعد وكرامة، فقال لها رسول الله (ص): "يا أم سعد، لا تحتّمي على الله".
وفي رواية أخرى عن أنس، قال: استشهد منّا رجل يوم أُحُد فوجد على بطنه صخرة مربوطة من الجوع، فمسحت أمّه التراب عن وجهه وقالت: هنيئاً لك يا بني الجنة، فقال النبي (ص): "وما يدريك لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه ويمنع ما لا يضره".
كما أنه لو كان ظاهره سيِّئاً لنا فلا يصح لنا أن نجزم بأنه من أهل النيران، فلربّما اطّلع الله على حسنة فعلها أوجبت له الغفران والرضوان، أو ربّما شملته رحمة الله الواسعة التي وسعت كل شيء