۩۞۩
معجزات الرسول (عليه افضل الصلاة والسلام)
۩۞۩
معجزات الرسول (ص)
* د. عبدالرحمن الحجِّي
الكَمُّ الهائلُ الغَنيُّ في تناول السيرة النبوية الشريفة – على صاحبها الصلاة والسلام – يتحفنا بشمول كلُّ ما يتعلّق بها، سنةً وسيرةً وغزوات، ولم تُبْقِ جانباً من كل ذلك مجهولاً أو غائباً أو خفياً، مما يتعلّق بهذه السيرة الكريمة، عمومياتها وخصوصياتها، إضافة إلى التنوّع في الموضوعات: الأحداث, والشمائل، والدلائل.
التعامل مع سيرة الرسول الكريم (ص) لابدّ أن يكون باعتباره إنساناً نبياً رسولاً، ولا يمكن أبداً الفصل بينهما بحال. إنّه مع ذلك، لابدّ هنا من معرفة الصِّيَغ المتنوعة من السيرة النبوية الشريفة، بمواصفات متميّزة مُسْتَنتَجَةٍ، عندها سيُرى من خلال هذه المحاولة أو التوجه أو الدراسة: أن كُلَّ ما في حياته اليومية (ص)، يدل دلالة واضحة على نبوته، في كل موقف وقول وتصرف، يتلمّسه بل يلمسه عندها كُلّ أحدٍ بوضوح تام، مما يُشِيرُ إلى نبوته الكريمة (ص).
لو وضعنا جانباً كافة المعجزات الحسية المرئية التي حدثت وقت النبوة أمام الصحابة الكرام – حتى مع الأعداء – يرونها يومياً ويزدادون منها قرباً وحباً ويقيناً، وغير الحسية التنبؤية – الغابرة والحاضرة والمستَقْبَلَة(1)، والمعنوية الدائمة، وأوّلها القرآن الكريم معجزة الله الخالدة الذي لا تنتهي عجائبُه(2)، لرأينا بوضوح تام وبَدَا بقوة وشُوهِدَ مؤكَّداً – متابعة حياته اليومية – أنّه نبيٌّ صادقٌ مُرسَلٌ من عند الله تعالى، الذي يُوحِي سبحانه جل جلاله إليه، سلوكه اليومي وتعامله وأقواله وإجاباته وعباداته وكرمه وحلمه وحنوه وشجاعته ووفاؤه وغيرها كثير جِدُّ كثير(3)، مِثْلُ مَنْ كان يدعو عليه من الأعداء أو يدعو لهدايته، ومن كان يأتيه ليدعو له بخير يسعى إليه ويريده ويطلبه فيفعل وتكون الاستجابة من الله تعالى تأييداً له؛ فكيف بهذه المعجزات الحسية الموثقة عالياً المؤكّدة المَرويّة بأعلى درجات التوثيق، بعملية أذكى الناس والمجتمع وأتقاهم وأنقاهم، معرفةً وعلماً وتحرّياً.
خذ مثلاً أيّ سؤال كان يُسْألَه (ص)، يُجيب عليه حالاً بكلام شافٍ كافٍ وافٍ(4)، بما لو عَمِلَ أيُّ جُهدَةً، مهما بلغ من العلم والخبرة والتجربة ما أتى بمثله، بهذه الحال والمستوى من المعنى الجامع المانع الرائع من جميع الجوانب(5)، بل حتى لو كانت لجنة أو مجموعة من العارفين، كيف وهو (ص) الذي أوتيَ جوامع الكَلِم(6)، مثاله الحديث الشريف السابق المتعلّق بوصف القرآن الكريم، كان جواباً لمن سأل سبيل النجاة من الفتن مستقبلاً، فبيّن (ص) أنّه القرآن الكريم(7). فضلاً عن أسئلة تتعلّق بالحياة ومتطلّباتها وحل المشكلات والاستشارات والإرشادات، مثل الصيغ المتنوعة في الأدعية، أضف إلى ذلك حتى ما يتعلّق بالأقوام والتاريخ الغابر وما مضى من أخبار وما بقي من أنباء الغيب والمستقبل، في الدنيا والأخرى، مما علمه إياه الله سبحانه وتعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى) (النجم/ 3-4).
يتأكّد هذا المعنى بقوة كافية صافية عالية، حين التوقف أمام ما تم إنجازُه في مدة، أكبر من قياسية، ثلاثة وعشرون عاماً، تَغيَّر وجهُ الأرض كلياً والتاريخ الإنساني، وليس العربُ وَحْدَهم، كانت الجزيرة العربية وما حولها والعالم كلّه مدمرَ الإنسانية خاوياً متهاوياً، مهدّداً بالانحدار وشيكاً نحو هُوَىً غير معروفة القرار(
.
لم يكن التغيّر سياسياً أو إجتماعياً أو حضارياً فحسب، بل أهم من ذلك كلّه وأبعد وأصعب، حيث تَغيَّر الإنسانُ بعقيدته وعقليته وأخلاقياته وكل جوانب حياته، مما هو أصعب من أي إنجاز آخر، دون أية عوامل أخرى جَدَّت له، غير هذه الدعوة الإسلامية الكريمة المتميّزة الفريدة، فكات ولادةً جديدة للإنسان المسلم بهذا الدين. مما اعتُبِرَ هذا وَحْدَهُ معجزة كبرى:
يُريدونَ مِنَ المُختار مُعْجزةً **** يَكْفِيهِ شَعْبٌ مِنْ الأمواتِ أحياهُ
- الهوامش:
1- هي كثيرة، مثل ما جرى من حديثه (ص) مع عَدِيّ بن حاتم عند إسلامه، وإشارته بإنتشار الإسلام، كَما أخرجه الإمام أحمد في مسنده، 4/377-478. انظروا الخبر مفصلاً: سير أعلام النبلاء، الذهبي، 3/162-165. جرى ذلك وسط السنة السابعة للهجرة النبوية الشريفة، يوم لم يكن في الأفق ما يلوح أو يشير أو يلمح بذلك. كل هذا يسير مع قوله (ص) بهلاك كسرى وقيصر، فلا كسرى ولا قيصر بعدهما: "إذا هَلَكَ كِسْرى فلا كسرى بَعْدّهُ، وإذا هلك قَيْصَرُ فلا قيصرَ بعده، والذي نَفْسِي بيده! لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهما (لَتُنْفِقُنَّ كُنُوزَهما) في سبيل الله" (رواه البخاري ومسلم). أستشعر أنّ هذا الحديث الشريف – وقد قيل قبل هلاكهما ببضع سنين – فيه الحث والإخبار والتعريف بحدوث ذلك، فهو لاشكّ من المعجزات النبوية المحمدية. انظروا: السيرة النبوية منهجية دراستها واستعراض أحداثها، 81-82، 377. كذلك مثل إخباره (ص) بما كانت عليه الجزيرة العربية وما ستعود إليه، من مروج وأنهار، مثلما كانت عليه من قبل: "لا تقومُ الساعةُ حتى تعودَ أرضُ العربِ مُروجاً وأنهاراً" (كما رواه مسلم والإمام أحمد في مسنده). انظروا: موسوعة الإعجاز القرآني، د. نادية طيارة، 2/166-170. نبوءات الرسول (ص) ما تحقّق منها وما لم يتحقّق، محمّد ولي الله الندوي، 287.
2- ورد هذا الوصف للقرآن المجيد في حديث شريف للرسول الكريم (ص)، حيث يقول: "كتابُ الله تبارك وتعالى، فيه نبأُ مَنْ قَبْلَكم، وخَبَرُ ما بَعْدَكم، وحُكْمُ ما بينكم. هو الفَصْلُ ليس بالهَزْلِ، مَنْ تَرَكَه مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ الله، ومَنْ ابتغى الهُدَى في غيره أضّلَّله الله، هو حَبْلُ الله المتين ونوره المبين، وهو الذكرُ الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تَزِيغُ به الأهواءُ، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تتَشعب معه الآراء، ولا تَشْبَعُ منه العلماءُ، ولا يمله الأتقياء، ولا يَخْلقُ على كَثْرة الرَّد، ولا تَنْقَضي عجائبُه، وهو الذي تَنْتَه الجنُ إذ سمعته أن قالوا: (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) (الجن/ 1-2)، مَن عَلِمَ عِلْمَه سَبَقَ ومن به صَدَقَ، ومن حَكَمَ به عَدَلَ ومن عَمِلَ به أُجِرَ، ومن دعا إليه هُدِيَ إلى صراط مستقيمٍ" (رواه الترمذي، في باب فضائل القرآن).
3- مثل إجابته (ص) لذلك الذي جاء يشتكي بطن أخيه فقال له (ص): "اسْقِهِ عَسَلاً" (كما رواه البخاري في باب الطب ومسلم في باب التداوي بالعسل). الأمثلة على هذه الصفات جميعاً وغيرها عجيبة في تفردها، والأحاديث الواردة عنها وفيرة. انظروا مثلاً: ما أورده البخاري (وغيره) في أبواب: الجهاد، والخمس، والمناقب، كذلكك حياة الصحابة 1/58-63 "صبره في الدعوة"، 146-148، حلمه: "يسبق حلْمُه جَهْلَه، ولا تزيد شدةُ الجهل عليه إلا حِلْماً"، 264-278، "تحمله الشدائد"، 304-308 "جوعه"، 2/ 271-275، "زهده"، 535-541، "خلقه"، 552-553، "حياؤه"، وهكذا دوماً كان (ص).
4- أية قضية أو موضوع أو دعاء يقوله ويبيّنه ويصفه حالاً، ليكون نموذجاً ومثالاً ودليلاً في كلّ الظروف والأحوال وعلى مدى القرون والأجيال.
5- بينما لم يكن يُعْرَفُ عنه شيئاً من ذلك قبل النبوة، غير الجانب الأخلاقي، الذي به سُمّيَ: الصادق الأمين اسماً يُنادَى به بديلاً. أما خلال النبوة، وفي العهد المكي، وهم يحاربونه ويسعون لقتله، كانوا لا يضعون أماناتِهم إلا عنده، يا للعَجَب العُجاب المثير لكل تعجب واستغراب.
6- من حديث شريف رواه البُخاري ومُسلم والنّسائي.
7- كما في رواية التِّرمذي لهذا الحديث الشريف.
انظروا تفسير: في ظلال القرآن، 5/3149 (=6/3566). لاحظ كلام الكاتب الأوروبي "ج. هـ. دينسون"، في كتابه: "العواطف كأساس للحضارة" (Emotion as the basis of Civilization) ففي القرنين الخامس والسادس الميلاديين كان العالم المتمدين على شفا جرف هار من الفوضى؛ لأن العقائد التي كانت تعين على إقامة الحضارة كانت قد انهارت، ولم يكن ثَمَّ ما يعتد به مما يقوم مَقامَها، وكان يبدو إذ ذاك أنّ المدنية الكبرى التي تكلف بناؤها أربعة آلاف سنة، مشرفة على التفكك والانحلال، وأنّ البشرية توشك أن ترجع ثانية إلى ما كانت عليه من الهمجية، إذ القبائل تتحارب وتتناحر، لا قانون ولا نظام. أمّا النظم التي خلقتها المسيحية فكانت تعمل على الفرقة والانهيار بدلاً من الاتحاد والنظام. وكانت المدنية، كشجرة ضخمة متفرعة امتد ظلها إلى العالم كلّه، واقفة تترنح وقد تسرب إليها العَطَبُ حتى الباب.. وبين مظاهر هذا الفساد الشامل وُلِدَ الرجلُ الذي وَحّدَ العالمَ جميعاً". نقلاً عن كتاب: الإسلام والنظام العالمي الجديد، مولاي محمّد علي، ترجمة الأستاذ أحمد جودة السحار. راجعوا: السيرة النبوية، أبوالحسن علي الحسني الندوي، 23 وبعدها. وله: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ 28 وبعدها.