الإنجيل الغامض
( إنجيل القديس برنابا )
سيطرت الدهشة على سلمان و عمت حالة من الصمت في أرجاء قبو الكنيسة المظلم لم يعترضها إلاَ صوت المطر الغزير الذي لم ينقطع ، فقد أثار حديث الكاهن المسيحي جواَ من الغموض والحيرة .
_ هل تقصد برنابا تلميذ المسيح يا أبت ؟ لم أسمع أبداً أن هناك انجيلاً غير هذه الأناجيل الأربعة يا سيدي !
_ بلى يا سلمان ! انه برنابا نفسه الذي ورد في الكتاب المقدس ، لقد كان له انجيل عرف في التاريخ بإنجيل برنابا حتى عام 325 م .
_ وماذا حل به يا سيدي بعد ذلك ؟ تسائل سلمان
_ لقد حرق ! أجاب الكاهن
_ حرق ! ولكن لماذا ؟ لماذا يحرق انجيل كتبه تلميذ المسيح ؟ قال سلمان
_ إن هذا الإنجيل يا سلمان لم يعتمد في ( مجمع نيقية ) .
_ لم أفهم يا سيدي !
_ حسناً يا ولدي..... لقد كانت هناك عدة أناجيل غير هذه الأناجيل الأربعة كان من بينها إنجيل القديس برنابا . ولكن كهنة المسيحيين قاموا بعقد مؤتمر في مدينة نيقية ( الشمال الغربي لتركيا الآن ) وقاموا باعتماد هذه الأناجيل الأربعة وحرق باقي الأناجيل ومنها إنجيل برنابا بناءاً على طلب ( أثناسيوس ) ومعاقبة من يجدون عنده نسخة منه .
_ ومن هو ( أثناسيوس ) يا سيدي ؟
_ إنه القديس أثناسيوس (ولد في 293 ، توفي في 2 مايو 373) كان بطريرك الإسكندرية في القرن الرابع. و تم الإعتراف به كقديس من الكنيسة الكاثوليكية و الكنائس الأرثوذكسية الشرقية، و قد ولد أثناسيوس في الاسكندرية من أبوين وثنين على دين الفراعنة القدامى. توفي والده وهو صغير وكان وهو صغير يلعب مع أصدقائه المسيحين تمثيلية المعموديه وكان يقوم بدور الكاهن في التمثيليه فرآه البابا إلكسندروس البطريرك التاسع عشر فأعجب به فإستفسر عنه ثم قام بإستحضار أم أثناسيوس وبشرها بأنه سيكون لإبنها شأن كبير في المسيحية فإستئذنها بأن يمكث معه ليعلمه وتم تعميدها هي وإبنها وعلمه أصول المسيحيه . وعندما كبر أثناسيوس قام بادخال مبدأ ( الثالوث المقدس ) على الدين المسيحي ، و قد كان المسيحيون حتى عام 325 يؤمنون بوحدانية الله حتى جاء أثناسيوس .
_ أتقصد الثالوث المقدس ( الآب ، الابن والروح القدس ) ؟ سأل سلمان
_ نعم يا سلمان ، إن فكرة الثالوث المقدس تتوافق مع فكرة الثالوث المقدس (أوزريس الأب، حورس الإبن ، إزيس الأم ) عند ديانة الفراعنة التي كان أثناسيوس يتبعها سابقاً ، بل وقد ظهر هذا الثالوث عند كل الديانات الوثنية تقريباً ، فقد كان للهنود الثالوث البرهمي المقدس ( برهما : الإله) ،( فشنو : المخلص) (سيفا : الروح العظيم ) ، وعندكم أيضاً يا سلمان في بلاد فارس في الثالوث الزردشتي المقدس !
_ ( الروح الصالحة ، الكلمة الصالحة والعمل الصالحة ) قال سلمان مقاطعاً
_ نعم يا ولدي ولكن أحد الكهان المسيحيين من (ليبيا ) ويدعى ( أريوس ) وقف له بالمرصاد ، وأنكر ما جاء به أثناسيوس بحجة في غاية البساطة وهو أن المسيح لم يذكر كلمة واحدة في الكتاب المقدس بأنه إله ولم يرد في الانجيل أبداً أنه قالً للناس اعبدوني ، فنشب خلاف كبير بين (أثناسيوس) و سيده بابا الإسكندرية آنذاك (ألكساندريوس الأول ) من جهة وبين ( أريوس ) ومن معه من المسيحيين من جهة أخرى ، فأمر الإمبراطور الروماني الذي كان يحكم مصر آنذاك ( قسطنطين الأول ) بعقد هذا المجمع المسكوني الأول وهو أحد المجامع المسكونية السبعة .
_ وماذا حدث بعد ذلك يا سيدي ؟ سأل سلمان بفضول
_ لقد حضر الإمبراطور هذا المجمع ، وقامت المناظرات بين الطرفين ، ونجح أريوس الذي يدعو للوحدانية في المناظرات, ولكن الإمبراطور الروماني
(قسطنطين الأول) لم يكن مسيحياً حينئذ ، وقد كان يؤمن بدين الرومان الوثني الذي يؤمن كأغلب الديانات الوثنية بالثالوث الروماني المقدس ( الله ، الكلمة والروح ) ، فتم اعتماد ما جاء به أثناسيوس من فكرة الثالوث المفدس ، فرفض ( آريوس ) ومن معه من القساوسة التوقيع على الوثيقة التي تضيف للمسيحية ألوهية المسيح والروح القدس ، رغم طلب الإمبراطور نفسه .
_ وماذا حصل لآريوس ومن معه من الكهان يا سيدي ؟
_ لقد أمر الامبراطور ( قسطنطين الأول ) بنفي ( آريوس ) ومن معه إلى أليرا ( البلقان حالياً ) ، وأمر أيضاً بحرق (إنجيل برنابا) ومعاقبة من يملك غير هذه الأناجيل الأربعة .
_ إذاً فقد ضاع أي دليل على اسم النبي الذي أمرنا المسيح أن نتبعه . قال سلمان والحزن يملؤ صوته
_ ليس تماماً يا سلمان ....ليس تماماً! مازال الاسم موجوداً في (إنجيل برنابا) و لا شك أن نسخة من هذا الانجيل قد نجت من الحرق, وهو مخبئ في مكان ما من قبل أحد ما, و لكن..... الاسم ليس مهماً الآن.....
ثم وضع يديه على كتفي سلمان و قال له:
_ اذهب يا بني إلى هنالك (أي أرض العرب)، فإن هذا النبي يأتي مهاجراً إلى أرض بين حرّتين ( أي أرضين سوداوين ) بينهما نخل ، وفيه علامات لا تخفى تظهر للناس يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، فالأنبياء لا يأكلون الصدقات ، بين كتفيه خاتم النبوة فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل !
كان الكاهن المسيحي الطيب يتحدث والعرق يتصبب من جبينه ، فلم ينتبه سلمان لذلك من هول ما استمع إليه من الحديث، فلما خفت صوت الكاهن من شدة الإعياء طلب منه سلمان أن يخلد إلى فراشه ، فقام سلمان بإسناده حتى أوصله إلى حجرته فتمنى له الشفاء وقبله على جبينه الذي كان بارداً على الرغم من تصببه بالعرق !
ملاحظة :عثر على نسخة نادرة من إنجيل برنابافي سنة 1709 من قبل كريمر أحد مستشارى ملك بروسيامكتوبة باللغة الإيطالية . و قد انتقلت النسخة مع بقية مكتبة ذلك المستشار فى سنة 1738 إلى البلاط الملكى بفينّا. و كانت تلك النسخة هى الأصل لكل نسخ هذا الإنجيل فى اللغات التى ترجم إليها ، وهذه المقتطفات من النسخة الأصلية الموجودة في المكتبة الوطنية في النمسا, وهذه مقتطفات مترجمة من اللغة الايطالية التي وُجد بها هذا الانجيل :-
_ الفصل 36 و هو كتاب ترك الصلوات : (قال يسوع: و لكن الإنسان و قد جاء الأنبياء كلّهم إلا رسول الله، الذى سيأتى بعدى لأن الله يريد ذلك حتى أهيء طريقه)
_ الفصل 43 و هى سورة خلق رسول الله : (أجاب المسيح : الحق أقول لكم إن كل نبى متى جاء فإنه إنما يحمل علامة رحمة الله لأمة واحدة فقط . و لذلك لم يتجاوز كلامهم الشعب الذى أرسل إليهم. و لكن رسول الله متى جاء. يعطيه الله ما هو بمثابة خاتم. فيحمل خلاصا و رحمة لأمم الأرض الذين يَقبلون تعليمه. و سيأتى بقوة على الظالمين.)
_ الفصل 44 : (لذلك أقول لكم إن رسول الله بهاءٌ يَسُرّ كل ما صنع الله تقريبا. لأنّه مزدان بروح الفهم و المشورة. روح الحكمة و القوّة. روح الخوف و المحبة. روح التبصر و الإعتدال. مزدان بروح المحبة و الرحمة. روح العدل و التقوى. روح اللطف و الصبر التى أخذ منها من الله ثلاثة أضعاف ما أعطى لسائر خلقه. ما أسعد الزمن الذى سيأتى فيه إلى العالم. صدّقونى إنى رأيته و قدّمت له الإحترام كما رآه كل نبى. لأن الله يعطيهم روحه نبوة. و لمّا رأيته إمتلأت عزاءً قائلا: { يا محمد ليكن الله و ليجعلنى أهلا أن أحل سير حذائك }. لأنى إذا قلت هذا صرت نبيا عظيما و قدّوس الله. ثم قال يسوع: إنّه سرُّ الله )
_ الفصل 39 و هو كتاب آدم: ( فلمّا انتصب آدم على قدميه. رأى فى الهواء كتابة تتألق كالشمس نصّها { لا إله إلا الله و محمد رسول الله }. ففتح آدم حينئذ فاه و قال: أشكرك أيها الرب إلهى لأنك تفضّلت فخلقتنى. و لكن أضرع إليك أن تنبئنى ما معنى هذه الكلمات { محمد رسول الله }؟ فأجاب الله: مرحبا بك يا عبدى يا آدم. و إنّى أقول لك إنك أول إنسان خلقت. وهذا الذى رأيته هو إبنك الذى سيأتى إلى العالم بعد الآن بسنين عديدة. و سيكون رسولى الذى لأجله خلقت كل الأشياء. الذى متى جاء سيعطى نورا للعالم. الذى كانت نفسه موضوعة فى بهاء سماوى ستين ألف سنة قبل أن أخلق شيئا. فتضرّع آدم إلى الله قائلا: يا رب هبنى هذه الكتابة على أظفار أصابع يدي. فمنح الله الإنسان الأول تلك الكتابة على إبهاميه. على ظفر إبهام اليد اليمنى ما نصّه { لا إله الا الله } و على ظفر إبهام اليد اليسرى ما نصّه { محمد رسول الله }. فقبّل الإنسان الأول بحنان أبوّى هذه الكلمات و مسح عينيه و قال: بورك اليوم الذى سوف تأتى فيه للعالم.)
_ الفصل 41 هو باب الجزاء : ( حينئذ قال الله: إنصرف أيها اللعين من حضرتى. فانصرف الشيطان. ثم قال الله لآدم و حوّاء اللذين كانا ينتحبان: أخرجا من الجنة. و جاهدا أبدانكما و لا يضعف رجاؤكما. لأنى سوف أرسل إبنكما على كيفية يمكن بها لذرّيتكما أن ترفع سلطة الشيطان عن الجنس البشرى. لأنى سأعطى رسولى كل شيء. فاحتجب الله. و طردهما الملاك ميخائيل من الفردوس. فلمّا التفت آدم رأى مكتوبا فوق الباب { لا إله إلا الله محمد رسول الله }. فبكى عند ذلك و قال: أيّها الإبن عسى الله أن يريد أن تأتى سريعا و تخلّصنا من هذا الشقاء.)
الرحلة إلى بلاد النخيل
أرض بين حرتين !!
لم تمض إلاَ أيام قليلة حتى لفظ الكاهن المسيحي الطيب أنفاسه الأخيرة ، فحزن سلمان لفراقه حزناً شديداً ، ولكنه قرَر تنفيذ وصية الكاهن و البحث عن رسول الله الذي حدَثه عنه . فبحث في أرجاء عمورية عن أحد يوصله إلى بلاد العرب فلم يجد أحداً . وفي يوم الأيام وجد سلمان تجاراً من قبيلة (كلب) العربية ، فعرض عليهم سلمان أن يعطيهم كل ما يملك من قطيع على أن يوصلوه لبلاد العرب ، فقبلوا عرضه واصطحبوه معهم ، ولماَ وصل سلمان إلى شمال الجزيرة العربية أحس باقترابه من تحقيق حلمه ، ولكن الذين اتفق معهم ما إن أصبحوا في رمال الصحراء العربية القاحلة حتىَ سلبوه كل ما كان يملك وباعوه لأحد الرجال هناك ، فأصبح سلمان عبداً له .
كان حزن سلمان هذه المرة أشد من كل مرة ، فهاهو الأن يكاد يصل إلى هدفه الذي هاجر من أجله من سنين ، ولكنه يصبح الآن عبداً مسلوب الإرادة في أرض غريبة لا يعرف عنها أي شيئ ، وقد كان قد خطط من قبل أن يفتش عن المدينة التي حدثه عنها كاهن عمورية في كل أرجاء بلاد العرب ، فأحس سلمان بالبؤس الشديد ، وشعر كأنه ظمآن شديد الظمأ في صحراء مقفرة ، فلما رأى واحة خضراء صافية مياها تطل عليه من بعيد فقد ساقيه ، فلم يعد قادراَ على متابعة المسير ، فلا هو هلك قبل أن يراها ، ولا هو وصل إليها وارتوى بمائها العذب !
ومما زاد من كمد سلمان أن سيده باعه مرة أخرى إلى ابن عم له في مدينة أخرى ، فرحل معه سلمان وهو لا يعرف إلى أي أرض يسير وأي قدر ينتظره ، فحمل سلمان أحمال سيده الثقيلة على ظهره وتبعه إلى المدينة الجديدة وحمله الذي يحمله في قلبه أشد وطأة عليه من حمله على ظهره !
وما أن وصل سلمان إلى مدينة سيده الجديدة حتى سقطت الأحمال التي يحملها على ظهره ، ووقف سلمان جامداً لا يتحرك من هول ما يرى !
_ ما بك أيها العبد اللعين ؟ هل تعبت ؟ احمل ما أسقطه عليك اللعنة ! كدنا نصل . قال السيد غاضباً
لم يصدق سلمان ما تراه عيناه .... لقد وصل إلى مدينة كثير نخلها ......بل إنه لم ير في حياته مدينة بها هذا العدد الهائل من النخيل !
فأحس بالدم الحار يتدفق في عروقه ، وأن قلبه يخفق بسرعة كادت تقضي عليه ، فأسرع يحمل متاع سيده على ظهره وكأنه حمل من الريش الخفيف ، ومان إن وصل إلى بيت سيده حتى اتجه إليه قائلاً :
_ سيدي .... هل تأذن لي أن ألقي نظرة على المدينة يا سيدي ؟ فإني أريد أن أرى المدينة و طرقها لكي أحضر ما يطلبه سيدي بسرعة إذ اما طلب شيئاً من أسواق المدينة !
_ حسناً أيها العبد اللعين ... ولكن لا تتأخر وإلا حلَ عليك غضبي .
خرج سلمان مسرعاً قاصداً سوق المدينة ، فطلب من الناس هناك أن يدلوه على مكان يرى به المدينة كلها ، فدله الناس على قمة جبل يطل على كل المدينة ، فأسرع سلمان إلى هذا الجبل راكضاً بسرعة يسابق بها الريح مخترقاً بساتين النخيل الممتدة في أرجاء المدينة كسهم ثاقب ، وما أن تسلق الجبل وأصبح على قمته المطلة على المدينة حتىَ جثى على ركبيته ، ثم نظر إلى السماء وعيناه مغرورقتان بالدموع قائلاً :
_ أرض بين حرتين، بها نخل كثير...أيها الكاهن الطيب................... لقد وصلت !
البشارة
ظلَ سلمان يعمل عند سيده بهمة و نشاط لكي يرضى عليه سيده ويحتفظ به ، فقد كانت من عادة الناس في هذه الأرض أن يبيعوا عبيدهم إلى آخرين إذا ما أحسوا فيهم الوهن و الكسل ، وقد كان سلمان يحرص كل الحرص على إرضاء سيده لكي يبقى في هذه المدينة (يثرب) التي سوف يأتي إليها رسول الله مهاجراً .
ومرت الأيام و الأيام ، ومرت بعدها شهور و سنين ، حتى مرت على سلمان عشرون عاماً مذ مغادرته من أصفهان أول مرة بحثاً عن السعادة ، وطال انتظار سلمان ، ولكن ما كان يواسي انتظاره الطويل أنه يشعر في قرارة نفسه بأن الرب الذي أتى به إلى هذه يثرب وهو عبد مقيد الحركة من دون أن يبحث عنها بنفسه لهو قادر على أن يكمل فرحته برؤية حلمه يتحقق في حياته .
حتى أتى ذلك اليوم الذي كان فيه سلمان في أعلى النخلة يجني الرطب لسيده الذي كان يوجهه من أسفله ، فإذا بابن عم لسيده يأتي إليه غاضباً ويقول له بأن الناس يجتمعون بقباء (منطقة في يثرب) برجل قدم إليهم من مكة اليوم يزعم بأنه نبي ! فما أن سمع سلمان حديثه من أعلى النخلة حتىَ أخذته الرعشة ونزل بسرعة من أعلى النخلة ليستوضح من هذا الرجل عن حديثه ، ولكن سيده لطمه ونهاه عن التدخل بحديث السادة ، فأكمل سلمان عمله حتى حلَ المساء ، فأخذ شيئاً من الثمر كان يملكه وخرج قاصداً ذلك الرجل القادم من مكة وهو يتذكر تحذير المسيح لأتباعه من أناس يدعون النبوة من بعده، ويردد في قرارة نفسه ما قد ذكره له الأب المسيحي الطيب عن صفاة هذا النبي ( يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة) ، حتى وصل سلمان إليه وهو جالس بين أصحابه فحياه سلمان ثم قال له :
_ لقد بلغني أنك رجل صالح معك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة ، وهذا شيئ كان عندي للصدقة ، فرأيتكم أحق به من غيركم .
فقرب سلمان الثمر إليه ، وأخذ يرقب ماذا يفعل ، فقال الرجل لأصحابه :
_ كلوا !
وراقب سلمان يدي الرجل فرآها ثابتتين لا تمتدان للطعام أبداً ، فقال سلمان لنفسه :
_ هذه واحدة !
ثم انصرف سلمان فجمع شيئاً من الثمر كان يملكه وعاد به إلى هذا الرجل وقال له :
_ إني رأيتك لا تأكل الصدقة وهذه هدية اكرمتك بها .
فأمر الرجل أصحابه أن يأكلوا وأكل معهم، فقال سلمان لنفسه :
_ هاتان اثنتان !
ثم جاء سلمان إلى هذا الرجل ليتأكد من العلامة الأخيرة ، فوجده جالساً بين أصحابه فحياه ثم استدار لينظر إلى ظهر الرجل الغريب ليرى العلامة التي وصفها له كاهن عمورية ، ولكنه لم ير شيئاً ، فأخذ يلتفت يميناً وشمالاً علَه يجد هذه العلامة ولكنه لم يعثر عليها.
فلاحظ الرجل أن سلمان يريد أن يتثبت من شيئ وُصف له ، فألقى ردائه عن ظهره ، فنظر سلمان بين كتفيه فوجد العلامة التي وصفها الكاهن المسيحي .
وفي لحظة واحدة أحس سلمان بتعب عشرين عاماً من الترحال والعبودية ينزاح عن كاهله ، فأخذ يبكي بكاء الفرحة ويعانق هذا الرجل ، فطلب منه الرجل أن يهدأ من روعه ويقص عليه حكايته، فأخذ سلمان يقص عليه مغامرته منذ البداية في بلاد فارس حتى أصبح عبداً في يثرب مروراً بما شاهده في بلاد الشام و الموصل و صفين و عمورية ، فأعجب الرجل بما سمع من سلمان ، وسأل سلمان أن يقص على أصحابه حكايته ففعل سلمان ذلك وهو سعيد في غاية السعادة لا يصدق أن من كان يقرأ عنه في الكتاب المقدس يراه رؤيا العين ويلمسه بيديه !
لقد كان هذا الرجل القادم من مكة هو ( محمد بن عبدالله) رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ونبي آخر الزمان .
محمد
وكان (محمد بن عبد الله بن عبد المطلب) رجلاً من قريش, وهي القبيلة الكبرى في بلاد العرب , وكانت قريش تسكن في مكة, وكانت مكة أهم مدينة في بلاد العرب لاحتوائها على الكعبة التي بناها نبي الله (إبراهيم) بمساعدة من ابنه (إسماعيل), وكانت القبائل من كافة أصقاع بلاد العرب تحج إليها في أشهر كانت تسمى الأشهر الحرم و هي أشهر يمنع فيها القتال, وقد أكسبت الكعبة قريشاً مكانةً رياديةً بين قبائل العرب.
وكان (عبد المطلب بن مناف) جد محمد سيداً لقريش, وكان نسبه يمتد إلى إسماعيل بن إبراهيم. وقد مات (عبد الله) أبو محمد قبل أشهرٍ من ميلاده فسماه جده محمداً (ويعني الرجل محمود الذكر). ثم ماتت أمه (آمنة بنت وهب) و هو طفل صغير فرباه جده, ثم مات جده فرباه عمه (أبو طالب) فنشأ محمد يتيماً.
وقد سُمي محمد (بالصادق الأمين) لما أُشتهر به بين قومه من الصدق و الأمانة, وقد كان محل احترام كبير بين قومه, إلا أنه لم يكن مقتنعاً بدين قومه الذين كانوا يعبدون الأصنام.
وقد كان العرب في بادئ الأمر يعبدون الله رب إبراهيم ولكن رجلاً اسمه (عمرو بن لحي الخزاعي) ذهب في تجارة للشام, فرآى أناساً يعبدون الأصنام, فلما سألهم كيف يعبدون أصناماً يصنعونها بأيديهم لا تسمع ولا تنطق! قالوا له إنهم لا يعبدون الأحجار وإنما يعبدون روح الرب التي تسكن بداخلها, فراق لعمروٍ هذ التفسير, وطلب منهم أن يعطوه صنماً, فأعطوه صنماً يدعونه (هبل), فأخذه لقومه ونشر عبادة الأصنام بين العرب, فكان لكل قبيلة عربية صنماً يعبدونه. فعبدت العرب أصناماً كثيرة كان منهم (اللات) و (العزى), أما قريش فقد عبدت كبير الأصنام (هبل).
وقد اعتاد محمد أن يختلي بنفسه في غار (كهف) في أحد الجبال المطلة حول مكة يسمى (غار حراء). وعندما بلغ الأربعين من عمره وبينما محمد يتعبد في الغار نزل عليه الملك (جبريل) وطلب منه أن يقرأ فأجاب محمد بأنه ليس بقارئ (وقد كان محمد أمياً لا يعرف القراءة و الكتابة) فكررها مرة ثانية و ثالثة و محمد يجيب ما أنا بقارئ ما أنا بقارئ. ثم قال له جبريل:
اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ و ربك الأكرم ، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم
العلق 1-5
كان سلمان يستمع إلى قصة محمد و يحاول أن يعرف كل شيئ عن هذا النبي الذي بعث منذ ثلاثة عشر عاماً ولم يعلم عنه شيئاً لاشتغاله بالرق عند سيده, و أخذ يقارن أول ما أنزل من القرآن بما ورد في سفر أشعياء
(يدفع الكتاب لمن لا يعرف الكتابة ويقال له اقرأ هذا فيقول لا اعرف الكتابة ( أشعياء : 29 : 12
الحرية
(أعينوا أخاكم !)
كان سلمان يستمع إلى محمد وأصحابه يحاول أن يعرف كل شيئ عن هذا الدين الذي عبر البلدان و الصحاري بحثاً عنه و يستغرب كيف لم يسمع عنه مع أن محمداً بُعث منذ سنين عدة, ولكن استغرابه سرعان ما يتلاشى عندما يتذكر أنه عبد مسلوب الإرادة و حرية التنقل, فحتى بعد أن أسلم سلمان لم يكن باستطاعته أن يغيب كثيراً عن سيده لكي يقوم على خدمته.
ومما زاد من حزن سلمان أنه لم يتمكن من المشاركة مع المسلمين في معركة (بدر) عندما جاءت قريش بجيش كبير ليحاربوا المسلمين مع أنهم طردوهم من ديارهم و استولوا على كل ممتلكاتهم في مكة, وكان عدد جيش قريش 1000 مقاتل وعدد المسلمين 313 مقاتل, و بالرغم من الفارق الكبير بين الجيشين من حيث العدة و العتاد فإن المسلمين استطاعوا أن يحققوا نصراً كبيراً.
وبالرغم من أن محمداّ صلى الله عليه وسلم كان هو الحاكم الفعلي للمدينة, إلا أنه لم يحرر سلمان بالقوة من مالكه الذي كان من غير المسلمين من (بني قريظة),
فكان سلمان حزيناً لعدم قدرته على الدفاع عن الإسلام و المشاركة في (بدر) لاشتغاله بالرق, ولكنه كان في أشد حالات السعادة عندما لم تستطع قريش على استئصال شوكة الإسلام, و مما زاد في سعادته على نتيجة هذه المعركة التي حدثت بعد سنة من هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ما تذكره من الكتاب المقدس يؤكد أن محمداً هو الرسول الموعود في الإنجيل من (سفر أشعياء 16/21):
(فإن هكذا قال لي السيد : في مدة سنة كسنة الأجير يفنى كل مجد قيدار)
وقيدار هو الجد الأكبر لقبائل مكة، وهو من أبناء إسماعيل عليه السلام، كما يخبر الكتاب المقدس في (سفر التكوين الإصحاح 25 الفقرة 13)
(وهذه أسماء بني إسماعيل بأسمائهم حسب مواليدهم: نبايوت بكر إسماعيل وقيدار وأدبائيل ومبسام……).
وظل سلمان سلمان يعمل عبداً عند سيده الذي لم يكن مسلماً و إنما كان يعيش في المدينة ككثيرٍ من غير المسلمين في الدولة الناشئة التي أسسها محمد صلى الله عليه وسلم و ترك لهم حرية الإعتقاد و الدين وكفل لهم الإسلام العيش بسلام و أمان جنباً إلى جنب مع المسلمين.
وكان مما يحزن سلمان كل مساء هو استماعه إلى مجالس سيده و أصحابه عندما يجتمعون لكي يستهزئوا بالرسول وما يأتي به من القرآن.
فيأتون بشيئٍ من القرآن يخبر عن أخبار الأمم السابقة و عن ادم و نوح و ابراهيم و اسحق و سليمان و موسى و عيسى, فيقوم أحدهم و يقول:
_ إن محمداً ما هو إلا رجل كذاب, لا بد أنه قرأ ما ورد في التوراة و الانجيل من قصص الأنبياء و أعاد صياغتها في القرآن!
فيرد آخر و يقول:
_ و لكن ما يذكره محمد عن هؤلاء الأنبياء و الرسل لا يطابق تماماً ما في كتبنا ثم إنه أمِّي لا يستطيع القراءة أو الكتابة!
فيتعجب من في المجلس من أمر هذا الرجل الذي لم يخرج من أرض العرب ليأتي بأخبار الأمم حول الأرض!
ثم يبدأون بالاستهزاء به و بدينه, فيأتون بشيئٍ من القرآن يوضح أن الأرض كروية الشكل وأن الشمس و القمر يتحركان
خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل علي النهار ويكور النهار علي الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار " (الزمر:5)
فيضج المجلس بالضحك !
ثم يأتي آخر بآيةٍ أخرى من القرآن لكي يتندر عليها :
َولَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّجَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةًفَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَاالْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُالْخَالِقِينَ (المؤمنون 12-14)
فتنبعث قهقهة عالية في أرجاء المجلس فيصيح أحدهم لعل محمد يستطيع أن يرى الأجنة في بطون أمهاتهم, فتزداد الضحكات ارتفاعاً .ثم يصمت الجمع و ينظر بعضهم على بعض ويتساءلون كيف لرجل أمي لا يعرف القراءة و الكتابة أن يأتي بكلام فصيح معجز في فصاحته حتى أن الشعراء عجزوا أن يأتوا بآية واحدة من مثله !!؟
ثم ينظر أحدهم إلى الآخرين و الغيظ يملأ عينيه و يقول:
_ إن محمداً لم يكتفِ بذكر أشياءٍ غريبةٍ كهذه, بل إنه يريد أن يغير من عادات البشر, فهو يعطي للنساء حقوقاً يرونها مجحفة في حق الرجل, فهو يفرض على المسلمين أن يُوَرثوا البنات على أن تأخذ البنت نصف ما يأخذ الولد على أن يكون الرجل ملزماً بالنفقة على زوجته و أبنائه حتى ولو كانت امرأته تملك مالاً كثيراً و لا يجوز له أن يأخذ من مالها غصباً ! بل إنه أتى بشيئٍ ما أتى به أحد من قبله حيث يعطي للمرأة الحق أن تكون هي من يطلب أن تنفصل عن زوجها حتى ولو لم يقبل أن يطلقها (الخلع) .
كان الرجال يتكلمون و يتناقشون في أمر رسول الله ويستهزئون به و بتعاليم الإسلام و سلمان يستمع إليهم و لا يستطيع أن يرد كلام سيده, وعندما يحين وقت راحته يذهب إلى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم و أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين ليتعلم منهم ما يتيسر له من تعاليم الدين و آيات القرآن.
وفي يومٍ من الأيام وبينما سلمان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له :
_ كاتب يا سلمان !
(وكان ذلك يعني في عرف الصحراء أن العبد يطلب حريته من سيده في مقابل يرضى عنه السيد)
فكاتب سلمان سيده فطلب الرجل من سلمان ثلاثمائة ودية (شتلة النخيل) وأن يزرعها له من دون أن تموت منها واحدة, إضافة لأربعين أوقية من من ذهب, فذهب سلمان حزيناً لمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه لا يملك شيئاً مما طلبه سيده, فنظر الرسول صلى الله عليه وسلم للنجوم المرابطة من حوله, نظر إلى خير البشر بعد الرسل والأنبياء....نظر لصحابته رضوان الله عليهم أجمعين و قال :
_ أعينوا أخاكم !
وقد كان الصحابة الكرام فقراء لا يملكون الكثير, فالمهاجرون منهم تركوا كل ما يملكون في مكة ليهاجروا سراً لله ورسوله, أم أهل المدينة من النصارى فقد كانوا في الأساس فقراء وكانوا قد اقتسموا كل ممتلكاتهم مع إخوانهم المهاجرين, إلاَ أنهم كانوا يمتازون بصفة ميزتهم عن كل البشر في تاريخ الإنسانية,
فقد امتاز الأنصار جميعاً من دون استثناء رجل واحد منهم وبالرغم من فقرهم الشديد بصفة الإيثار.... العطاء برغم حاجتهم الشديدة من دون أخذ أي مقابل. وقد وصفهم الله سبحانه وتعالى بقولهوالذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهمحاجة مما أوتوا ويؤثرون علي أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك همالمفلحون (الحشر 9)
فقام أحد الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين وقال:
_ أنا أعين بثلاثين ودية.
وقال آخر : و أنا بعشرين
_ وأنا بعشرة .
_ وأنا بواحدة .
نظر سلمان إلى هؤلاء الرجال الذين يتسابقون للتبرع من أجل حريته وهو غير عربي و لا يمت لهم بقرابة من قريب أو بعيد, ففهم ما تعنيه الأخوة الحقيقية. فلما اكتملت الثلاثمائة نخلة أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم و غرسها بيديه في التربة, فما ماتت منها واحدة!
فذهب سلمان لسيده وأراه النخيل الصغير, فطلب منه سيده أن يكمل ما عليه من أربعين أوقية من الذهب, فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمانَ بيضة صغيرة من ذهب و قال :
_ خذ هذه فأدها مما عليك يا سلمان !
نظر سلمان إلى هذه البيضة الصغيرة مستعجباً كيف لها أن تفي بما طلب سيده, فنظر إليه محمد و قال : خذها ...فإن الله سيؤدي بها عنك .
فذهب بها سلمان إلى سيده ووزن البيضة الذهبية وإذ بها أربعون أوقية لم تزد عنها أو وتنقص شيئاً !
و بذلك أصبح سلمان حراً .
(صَدَقَ سلمان)
أصبح سلمان حراً بعد سنواتٍ من الرق و العبودية قضاها بين الحل و الترحيل بحثاً عن هدفه, و هاهو يمتلك حريته أخيراً و لكنه لا يملك أي شيئٍ يعتاش منه, و لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد أقام نظاماً اجتماعياً فريداً من نوعه يسمى (المؤاخاة), وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمؤاخاة سلمان برجلٍ من النصارى يسمى (أبو الدرداء) رضي الله عنه وأرضاه.
وأقام سلمان مع أبي الدرداء في بيته و قد أصبح أخاً له, وكان أبو الدرداء رجلاً صالحاً يقوم الليل و يصوم النهار, و قد رأى سلمان أنه يبالغ في العبادة فنصحه أن يخفف من ذلك فقال أبو الدرداء لسلمان:
_ أتمنعني أن أصوم لربي و أصلي له؟!
فقال سلمان:
_ إن لعينيك عليك حقاً وإن لأهلك عليك حقاً, صم وافطر و صلِّ ونام.
فبلغ هذا الكلام محمداً فقال:
_ صدق سلمان.
الزلزال
(هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً)
في السنة الخامسة من الهجرة قامت بعض القبائل التي أغاظها ما وصل إليه الرسول و صحابته من قوة, ولم يرق لهم ازدياد عدد المؤمنين به و بدينه و ما يدعو إليه من السواسية بين الناس, فأنشأوا وفداً يضم كبارهم و ذهبوا إلى القبائل المتفرقة لكي يجمعوا جيشاً جراراً يستأصل الإسلام وإلى الأبد فيقضون به على الإسلام نهائياً, فحرَّضوا قريشاً فجمعت أربعة آلاف مقاتل وقاموا بشراء ذمم ستة آلاف مقاتل من المرتزقة و قطاع الطرق من قبائل (غطفان) و (بني سليم) و (بني مرة) و (بني أشجع) و (بني سليم) و (بني أسد) فتجمع لديهم أكبر جيش تم جمعه في تاريخ جزيرة العربية وهو عشرة آلاف مقاتلٍ من أجل مشترك...... تدمير الدولة الإسلامية الوليدة و استئصال شأفة المسلمين إلى الأبد.
ووصل الخبر ليثرب (و قد سميت بالمدينة المنورة بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إليها) فكان أول شيئٍ قام به زعيم الدولة أن عقد مجلس شورى (و هو نظام إسلامي ذُكِر بالقرآن و أصبح أصلاً من أُصول الحكم في الإسلام ويتشاور فيه المسلمون في قراراتهم).
و أخذ الرسول والصحابة يتباحثون في كيفية الدفاع عن دولتهم المكونة من مدينة واحدة. وكان يحق لجميع المسلمين إبداء الرأي بغض النظر عن مكانة الشخص الاجتماعية أو أصله أو لونه, و تباحث الصحابة (و هو الاسم الذي أُطلق على أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم و الصحابي هو كل من لقي الرسول مؤمنًا به ومات على ذلك) وأخذوا يقترحون الحلول و لكن شخصاً ما كان صامتاً يفكر و قد بدت عليه معالم التركيز الشديد, فلم يكن باستطاعة سلمان أن يتخيل بأن حلم كل شيئٍ سينتهي هكذا بكل بساطة بعد أن لاقى ما لاقاه من ترحالٍ و رقٍ مقابل أن يصل إلى حلمه, كيف ينتهي هذا الحلم الجميل بهذه السرعة بعد أن عانى من العبودية عند سيده بانتظار هذا النبي الذي أخبره كاهن عمورية بسره, وأخذت الذكريات القديمة تمر على ذهن سلمان كأنها كانت قبل يوم أو بعض يوم, فتذكر سلمان كيف رحل إلى (عمورية) من (صفين) وقبلها من (الموصل) وقبلها من (بلاد الشام) بعد أن ترك (بلاد فارس) وعبر مع الكاهن المسيحي الطيب خلال (بلاد الرافدين) حتى يصل إلى (يثرب) هذه المدينة الجميلة التي طلب منه كاهن عمورية أن يرحل إليها بقوله (اذهب إلى مدينةٍ بها نخلٌ كثير, بين حرتين!)......
عند ذلك اتسعت عينا سلمان على آخرهما وكأنه قد تذكر شيئاً كان غائباً عنه ... (بين حرتين) أعادها سلمان على نفسه و قد زادت دقات قلبه وكأنه عثر على شيئٍ كان ضائعاً عن ذهنه! ووضع سلمان يده على رأسه و كأنه يعصر أفكاره, وازداد اتساع حدقتي عينيه و كأنه يرى المدينة من نفس المكان الذي رآها منه لأول مرة من أعلى نقطة فيها يوم أن أتى به سيده عبداً إليها, فرأى المدينة محاطةً بالجبال من الجهة الشرقية و الجهة الغربية وكانت الجهة الجنوبية محروسةً من (بني قريظة) ضمن اتفاقية مع المسلمين ألاّ يسمحوا لأي جيش معادِ بالمرور من خلالهم.
إذاً لم يكن أمام هذا الجيش الجرار إلاّ الإغارة على المسلمين من الشمال, وعند هذه اللحظة رجع سلمان مرةً أخرى بذاكرته إلى بداية مغامرته... إلى رحلته خلال بلاد فارس مع الكاهن المسيحي الذي ساعده على الفرار إلى بلاد الشام وكيف روى له عن ذلك الجيش الجرار الذي أتى به ذلك الفاتح ليغزوا به مدن الفرس, و كيف صمدت أمامه المدينة التي مر بها سلمان في رحلته الأولى.
_ يا رسول الله!
نظر الجميع باتجاه مصدر هذا الصوت الذي انبعث بنبرة مليئةٍ بالثقة و القوة فرأوا رجلاً طويل الساقين غزير الشعر يوجه حديثه للرسول إلى الرسول:
_ يا رسول الله ... إنّا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خندقنا عليهم.
صمت الجميع بانتظار رد الرسول الذي أدار الفكرة في رأسه, ثم أقرَّ بها..... أقرَّ خطة سلمان (الخندق)!
المشروع المستحيل
كانت المدينة المنورة مدينةً تقع بين جبال سوداء من الشرق والغرب (بين حرتين) و كانت المنطقة الجنوبية منها مسكونة من (بني قريظة) و قد كانت شديدة التحصين وقد عقدوا اتفاقية مع المسلمين على أن لا يسمحوا لأي قوة معتدية من المرور من عندهم بل وكان عليهم المحاربة مع المسلمين كما تقول الاتفاقية وقد بعث الرسول إليهم ليتأكد من ولائهم فأكدوا له الوفاء بالإتفاقية , لذلك استحال دخول جيش الأحزاب المتحالفين من هذه الجهة (أوهكذا كان يظن المسلمون!)
فكان الهدف إذاً حفر خندق في المنطقة الشمالية, و كانت المسافة المراد حفرها بين الجبال الشرقية و الجبال الغربية تعادل (12 كيلو متر) وكان يجب على المسلمين أن يحفروا خندقاً لا يقل عمقه عن (5 أمتار) و عرضه يتراوح تبعاً لطبيعة الأرض ما بين (5 _11 متر),
أي أنه كان على المسلمين حفر ما لا يقل على (000 300 متر مكعب), و قد كان عدد المسلمين ثلاثة آلاف رجل فقط بعضهم يقوم بحراسة سكان المدينة و بعضهم يقوم برعاية أمور الحياة الأخرى في المدينة لإعداد ونقل الطعام و الشراب و البعض كان مريضاً في بيته و البعض كان يعمل في نقل الصخور و الرمال بعيداً عن الخندق, وإذا ما افترضنا جدلاً أن جميع الثلاثة آلاف رجل كانوا يحفرون بغض النظر إن كان الرجل شاباً أو كهلاً, وإذا ماعلمنا أن أرض المدينة كانت أرضاً صخريةً و لم تكن رملية يسهل حفرها إضافةً أنه لم تكن للمسلمين أي خبرة في حفر الخنادق من قبل, بل لم يكن للعرب كلهم أي خبرة سابقة بهذا الأمر الذي أتى من بلاد فارس, و إذا ما علمنا أنه كان على المسلمين حفر هذا الخندق في أسبوعين فقط قبل أن تباغتهم الجيوش المتحالفة, إذا ما حسبنا هذا كله وأضفنا إليه ظروف الصحراء القاحلة من حرٍ شديد في الصباح و برد قارسٍ في الليل فإن أقل وصفٍ يمكن أن يُوصف به هذا المشروع أنه مشروع مستحيل!
بدأت عملية الحفر الجبارة, و قسَّم الرسول المسلمين إلى مجموعات تقوم كل مجموعة بحفر مساحة معينة حتى إذا ما فرغت منها بدأت بغيرها,و شارك الرسول صلى الله عليه وسلم والذي قارب على الستين من عمره في الحفر مع المسلمين. ومما زاد من صعوبة الحفر الجوع الشديد الذي أنهك الصحابة الكرام رضوان الله عليهم وكاد يقضي عليهم حتى أن بعض المسلمين ربطوا على بطونهم حجارةً لكي يخففوا من وجع معداتهم الفارغة و لماّ اشتد بهم الجوع ذهب بعض الصحابة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يشكون له شدة الجوع فرفعوا عن بطونهم عن حجر لكي يظهروا له شدة جوعهم فرفع لهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن حجرين في بطنه و تابع الحفر. وكان سلمان يحفر مع مجموعته في المساحة المخصصة لهم و كان يشاهد هؤلاء الأناس الغريبين و يتسائل إن كانوا بشراً من أهل الأرض كباقي البشر أم أنهم غير ذلك! لقد كاد الجوع و البرد يفتكان بهم و هم يحفرون بصخور صماء ولكنهم كانوا سعداء في غاية السعادة وهم يعملون بجدٍ غريب و الابتسامة مرسومة على وجوههم التي غطتها الأتربة من أثر الحفر فلا يكاد يُرى في وجوههم إلّا تلك الإبتسامة التي لم يرى مثلها و هو على موائد قصر والده العامرة بألوان الطعام و الشراب. لقد كان منظراً غريباً لهؤلاء الرجال الجائعين زاد من غرابته أن الرسول صلى الله عليه وسلم و هو يحفر بدأ ينشد شعر الصحابي(عبد الله ابن رواح) رضي الله عليه و ينشد وهو ينقل التراب وقد غطى بطنه من كثرة الحفر:
اللهم لولا أنت مااهتدينا و لا تصدقنا و لا صلينا
فأنزلن سكينـة علينـا وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الآلي قد بغـوا علينا وإن أرادوا فتنة أبينا
ثم ينظر إلى صحابته العظام و هم يحفرون بعزم و همة برغم الجوع و البرد و يقول:
اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر للمهاجرة و الأنصار
فيجيب صحابة محمد رضوان الله عليهم أجمعين بصوت واحد و السعادة بادية على محياهم:
نحن الذين بايعوا محمدًا على الجهاد ما بقينا أبدًا
كان سلمان رضي الله عنه ينظر إلى هؤلاء الأناس العجيبين التي لم يرَ مثلهم على وجه الأرض وهم يمرحون و ينشدون و هم يحفرون بعزيمة كانت أشد و أقوى من هذه الصخور العاتية.
و بينما سلمان يحفر في الخندق و يتأمل في هؤلاء الصحابة العجيبين اعترضت معوله صخرة صمّاء فحاول أن يحطمها بمعوله و لكن الصخرة لم تتزحزح من مكانها على الرغم محاولاته العديدة التي ضاعت عبثاً, فذهب إلى رسول الله يستأذنه في تغيير مسار الحفر تفادياً لتلك الصخرة فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم وأخذ المعول فقال: بسم الله ثم ضرب ضربة وقال:
_ الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأنظر قصورها الحمر الساعة.
ثم ضرب الثانية فقال: بسم الله, فقطع آخر فقال:
_ الله أكبر، أعطيت فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن.
ثم ضرب الثالثة فقال: بسم الله، فقطع بقية الحجر فقال:
الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني.
كان سلمان يستمع إلى هذه البشرى و يتذكر ذلك القصر الأبيض في المدائن الذي رآه قبل أكثر من عشرين سنة و هو في بداية مغامرته في البحث عن السعادة, في البحث عن الحق, و تذكر ما اعتراه من مصاعب في حياته لكي يجد هذا الرجل الواقف أمامه حقيقةً لا خيالاً.
واكتمل المشروع الخيالي في أسبوعين, و وصل الأحزاب إلى مشارف المدينة فتفاجئوا بوجود هذا الخندق أمامهم فوقع في أيديهم وطاش صوابهم و قالوا:
_ هذه مكيدة ما عرفتها العرب!
وقد نسوا أن الإسلام ليس ديناً للعرب وحدهم وأن بينهم صحابي جليل من بلاد فارس.
فوقف الأحزاب أمام الخندق عاجزين أمام هذا المانع الصناعي الضخم, و حاولوا اقتحام الخندق من أماكن مختلفة و لكنهم وجدوا مقاومة شديدة من المسلمين الذين حالوا بينهم و بين عبور الخندق, و لكن فارساً من فرسانهم و يدعى ( عمرو بن عبد ود) استطاع أن يعبر الخندق بفرقة من الفرسان الأشداء, و لكنه فوجئ بمقاومين من الصحابة الكرام على رأسهم الصحابي (علي بن أبي طالب) رضي الله عليهم يصدون تقدمهم, فحدثت مبارزة شديدة بين الاثنين استطاع فيها عليٌ رضي الله عليه أن يصرعه قبل أن يفر الفرسان المقتحمين.
و استمر الحصار شهراً كاملاً و الأحزاب عاجزةٌ على العبور بالرغم من محاولات الإقتحام المتعددة . و يأس الجيش الغازي و كادت فلولهم تندحر تجر أذيال الهزيمة خلفها........ لولا أن شيئاً مفاجئاً حدث, فغير من مجرى الأحداث!
الخيانة!!!
عجز الأحزاب على اقتحام المدينة بعد شهرٍ من الحصار الشديد, وأيقنوا أن هؤلاء الصحابة لن يتركوا المقاومة أبداً, فأرادوا تجربة طريقة أخرى للإقتحام عن طريق الخديعة, فقام (حيي بن الأخطب) سيد بني النضير و كان أشد الناس في جيش الأحزاب كرهاً و حقداً و حسداً على الرسول صلى الله عليه وسلم وقد كان هو من طاف بين القبائل يحرض على محمدٍ و يجمع الجيوش لمحاربته, فقال لزعماء الأحزاب :
_ إن كنّا لم نستطع أن ندمر المسلمين من الشمال فلسوف نباغتهم من الجنوب!
و ذهب حيي إلى (بني قريظة) وقام بالاجتماع مع كبيرهم (كعب بن أسد) سراً لكي يقنعه لكي يقنعهم بفتح الحصون الجنوبية للجيوش الغازية فقال:
_ ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر, جئتك بقريش على قادتها وسادتها, وبغطفان على قادتها وسادتها, قد عاهدوني وعاقدوني على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه .
فقال كعب بن أسد سيد بني قريظة:
_ بل جئتني والله بذل الدهر , ويحك يا حُيي فدعني وما أنا عليه فإني لم أرَ من محمدٍ إلا صدقاً ووفاءًا.
و لكن حيياً ظل يقنع به على فتح الحصون للتخلص من المسلمين حتى اقتنع كعب بخيانة العهد الذي كان بينه و بين الرسول صلى الله عليه وسلم, بل لم يكتفِ بقراره فتح الأبواب للجيوش الغازية بل أخذ يهيئ جيشاً لاستئصال المسلمين عن بكرة أبيهم, فكانت الخيانة!
ووصل خبر خيانة (بني قريظة) للرسول صلى الله عليه وسلم, وكانت خطة بني قريظة أن يدخلوا على المسلمين من جهة الجنوب حيث نساء المسلمين و أطفالهم في المدينة و المسلمون مرابطون حول الخندق في الشمال, وأدرك الرسول مدى خطورة الموقف, فكتم الخبر عن الصحابة و بعث بوفد من الصحابة على رأسهم الصحابي (سعد بن معاذ) سراً إلى بني قريظة ليتأكد من صحة الخبر, وطلب منهم أن يكتموا الخبر ويستفسروا من بني قريظة, فإذا كانوا قد خانوا فلا يخبروا أحداً و ليخبروه عن طريق الاشارة بحيث لا يفهمها إلا هو حتى لا يحبط المسلمين المقاومين و قال لهم:
_ انطلقوا حتى تنظروا ، أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا ؟ فإن كان حقا فالحنوا لي لحنا أعرفه ولا تفتوا في أعضاد الناس وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس .
فذهب الصحابة إليهم و سألوهم إن كانوا مازالوا على عهدهم مع رسول الله, فأجابوهم:
_ من رسول الله ؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد .
فأخذوا يشتمون الرسول بأقبح الألفاظ و الصحابي (سعد بن معاذ) يردهم. وبعد ذلك رجع الصحابة ووجدوا الرسول بين الناس, فأرادوا أن يبلغوه بخيانة القوم من دون أن يفهم ذلك من حوله كما أمرهم فقالوا له:
_ (عضل و قارة!)
ففهم الرسول أنها الخيانة , فقد كانت هذه عبارة توحي بحادثتين تعرض فيهما المسلمين للخيانة من قبل.
فحزن الرسول صلى الله عليه وسلم حزناً شديداً خوفاً على أرواح المسلمين و نسائهم و أطفالهم و أخذ يفكر كيف ينقذ هؤلاء الصحابة الأوفياء و الأحزاب من أمامهم و بني قريظة من خلفهم, وانتشر الخبر بين المسلمين و كأن زلزالاً قد أصاب القوم.
ووقف الرسول صلى الله عليه وسلم ورفع رأسه بين أصحابه وصاح فيهم عالياً:
_ الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين بفتح الله و نصره.
وعند هذه اللحظة نهض الرسول صلى الله عليه وسلم من هول الصدمة وأخذ يفكر بعمق وأخذ قراراً بشكل حاسم ...ارسال كتيبة من من الجند إلى الجنوب لحماية النساء و الأطفال , و في هذه الأثناء طلب المرتزقة من قبيلة غطفان من الرسول أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة لسنة كاملة مقابل رجوعهم إلى ديارهم وترك قريش لوحدها, وكتبوا صحيفة بهذه الاتفاقية لكي يصادق عليها الرسول, و لكن الرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان زعيم المسلمين إلاّ أنه طلب أن يأخذ رأي سكان المدينة الأصليين لأنهم هم أصحاب الأرض الأصليين و إن كان هو القائد الفعلي إلاّ أنه كان يحترم الملكية الخاصة فلم يرد أن يتخذ قراراً في مالٍ لا يملكه حتى ولو كان في ذلك إنقاذ لأرواح المسلمين.
فأخذ الرسول الصحيفة وعقد مجلس شورى مصغر مع زعيمي الأنصار من الأوس (سعد بن معاذ) و الخزرج (سعد بن عبادة) رضي الله عنهما, و عرض الصحيفة عليهما, فألقوا نظرة على الصحيفة ثم قالا للرسول:
_ يا رسول الله أمرا تحبه فنصنعه ، أم شيئا أمرك الله به لابد لنا من العمل به ، أم شيئا تصنعه لنا ؟
قال رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم برفقٍ و حنان :
_ بل شيء أصنعه لكم ، والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة ، وكالبوكم من كل جانب ، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما
فقال له سيد الأوس (سعد بن معاذ) رضي الله عنه وأرضاه :
_ يا رسول الله ، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان ، لا نعبد الله ولا نعرفه ، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرىً(ضيافة) أو بيعاً ، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا !؟ والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم .
وقد كان سعد يخاف إذا وافقوا على هذا الإبتزاز أن يكرره المرتزقة دائماً كلما احتاجوا إلى المال و تهتز صورة المسلمين أمام الناس.
فاقتنع الرسول بوجهة نظر السعدين رضي الله عنهما أُعجب برأيهم و قال لسعد بن معاذ :
_ فأنت و ذاك .
فتناول سعد بن معاذ رضي الله عنه الصحيفة فمحا ما فيها من الكتابة ثم قال بصوت تجسدت فيه كل معاني الشجاعة والإباء:
_ ليَجهدوا علينا ! (لِيِرونا ما هم صانعون!)
ثم ذهب ليعد سلاحه ويودع أمه فقالت له أمه:
_ الحق بني فقد والله أخرت.
فتناول سعد رمحه و تقدم يقاوم القوات الغازية بإقدام عجيب ليدافع عن المسلمين وهو ينشد:
لبّثْ قليلا يشهد الهيجا جمَل لا بأس بالموت إذا حان الأجل
فتعجب الأحزاب من هذا الفارس الذي يقدم للقتال رافعاً رمحه عالياً يدافع به عن المسلمين. فألقوا عليه النبال, فأصيب سعد بسهمٍ من سهام الغزاة و كانت إصابته خطيرة, فاجتمع المسلمين حول هذا الزعيم الشاب الذي يبلغ من العمر سبعاً و ثلاثين سنةً فقط فأخذ (سعد بن معاذ) رضي الله عنه وأرضاه يدعو الله ويقول:
_ اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إليَّ أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه، اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني لهم حتى أجاهدهم فيك، وإن كنت وضعت الحرب فافجرها واجعل موتتي فيها.
ثم تذكر ما عاناه الرسول و الصحابة في حفر الخندق من بردٍ وجوعٍ و تعب, وأن تعبهم سيضيع هباءاً نتيجةً لخيانة بني قريظة فقال في آخر دعائه:
_ ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة.
حزن المسلمون أشد الحزن لما أصاب كبير الأنصار, وازداد الحصار وطأة, وأصبحت المدينة مهيأة للإقتحام في أي لحظة وأطفالهم و نساؤهم فيها, وزُلزل المسلمون أيما زلزال وزاعت الأبصار, وبلغت القلوب الحناجر, ولكن الصحابة العظام ثبتوا وعزموا على الدفاع و المقاومة حتى آخر رمق في حياتهم, وأوشكت القوات الغازية على التحرك.
وفي هذه اللحظة وبينما الرسول يفكر في مصير المسلمين وفي مصير الإسلام بل وفي مصير الناس في جميع أرجاء الأرض الذين لم تصلهم دعوة الإسلام في ترك عبادة الخلق و عبادة رب الخلق, وبينما هو يفكر ويناجي ربه وإذ برجل ملثم يأتي خفية في ظلمة الليل للرسول ويتحدث معه بحديثٍ سري ثم يتركه, فيذهب لعمل شيءٍ ما يغير فيه مسير المعركة رأساً على عقب!
(الجنود التي لم تروها)
كان هذا الرجل الذي قدم للرسول سيداً من سادات قبيلة غطفان ويدعى (نعيم بن مسعود الأشجعي) وكان قائداً من كبار قادة جيش الأحزاب, وكان هدفه الذي أتى من أجله هو تدمير الإسلام و إنهائه من الوجود لما سمعه من قبل من أقاويل عن الإسلام و محمد, ولكنه لمّا قدم بجيشه إلى المدينة ورأى ما رآه من صلابة المسلمين و دفاعهم تعجب من السبب الذي يدعو هؤلاء الناس من الثبات أمام جيشٍ جرار لم ترَ الصحراء مثله من قبل وهم محاصرون من أمامهم و من خل